كيف يمكنك أن تعرف هذه الأسرار التي لا يعلمها إلا الله، وكيف صرت بحيث تعرف أسرار الله وأحكامه في ملكه وملكوته؟
فأجاب الله تعالى عنه بقوله: * (ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون) * وتقرير هذا الجواب أنه تعالى ينزل الملائكة على من يشاء من عبيده ويأمر ذلك العبد بأن يبلغ إلى سائر الخلق أن إله العالم واحد كلفهم بمعرفة التوحيد والعبادة وبين أنهم إن فعلوا ذلك فازوا بخيري الدنيا والآخرة، وإن تمردوا وقعوا في شر الدنيا والآخرة، فبهذا الطريق صار مخصوصا بهذه المعارف من دون سائر الخلق، وظهر بهذا الترتيب الذي لخصناه أن هذه الآيات منتظمة على أحسن الوجوه والله أعلم. وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي: (ينزل) بالياء وكسر الزاي وتشديدها، والملائكة بالنصب، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو * (ينزل) * بضم الياء وكسر الزاي وتخفيفها، والأول من التفعيل، والثاني من الأفعال، وهما لغتان:
المسألة الثانية: روي عن عطاء عن ابن عباس قال: يريد بالملائكة جبريل وحده. قال الواحدي: وتسمية الواحد باسم الجمع إذا كان ذلك الواحد رئيسا مقدما جائز كقوله تعالى: * (إنا أرسلنا نوحا إلى قومه) *. (نوح: 1) * (وإنا أنزلناه) * (يوسف: 2). * (وإنا نحن نزلنا الذكر) * (الحجر: 9) وفي حق الناس كقوله: * (الذين قال لهم الناس) * وفيه قول آخر سيأتي شرحه بعد ذلك وقوله: * (بالروح من أمره) * فيه قولان:
القول الأول: أن المراد من الروح الوحي وهو كلام الله ونظيره قوله تعالى: * (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا) * (الشورى: 52) وقوله: * (يلقى الروح من أمره على من يشاء من عباده) * (غافر: 15) قال أهل التحقيق: الجسد موات كثيف مظلم، فإذا اتصل به الروح صار حيا لطيفا نورانيا. فظهرت آثار النور في الحواس الخمس، ثم الروح أيضا ظلمانية جاهلة، فإذا اتصل العقل بها صارت مشرقة نورانية، كما قال تعالى؛ * (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة) * (النحل: 78) ثم العقل أيضا ليس بكامل النورانية والصفاء والإشراق حتى يستكمل بمعرفة ذات الله تعالى وصفاته وأفعاله ومعرفة أحوال عالم الأرواح والأجساد، وعالم الدنيا والآخرة، ثم إن هذه المعارف الشريفة الإلهية لا تكمل ولا تصفو إلا بنور الوحي والقرآن.
إذا عرفت هذا فنقول: القرآن والوحي به تكمل المعارف الإلهية، والمكاشفات الربانية وهذه المعارف بها يشرق العقل ويصفو ويكمل، والعقل به يكمل جوهر الروح، والروح به يكمل حال الجسد، وعند هذا يظهر أن الروح الأصلي الحقيقي هو الوحي والقرآن، لأن به يحصل الخلاص