ثم قال تعالى: * (وخاب كل جبار عنيد) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: إن قلنا: المستفتحون هم الرسل، كان المعنى أن الرسل استفتحوا فنصروا وظفروا بمقصودهم وفازوا * (وخاب كل جبار عنيد) * وهم قومهم؛ وإن قلنا: المستفتحون هم الكفرة، فكان المعنى: أن الكفار استفتحوا على الرسل ظنا منهم أنهم على الحق والرسل على الباطل * (وخاب كل جبار عنيد) * منهم وما أفلح بسبب استفتاحه على الرسل.
المسألة الثانية: الجبار ههنا المتكبر على طاعة الله وعبادته. ومنه قوله تعالى: * (ولم يكن جبارا عصيا) * (مريم: 14) قال أبو عبيدة عن الأحمر: يقال فيه جبرية وجبروة وجبروت وجبورة، وحكى الزجاج: الجبرية والجبر بكسر الجيم والباء والنجبار والجبرياء. قال الواحدي: فهي ثمان لغات في مصدر الجبار، وفي الحديث أن امرأة حضرت النبي صلى الله عليه وسلم فأمرها أمرا فأبت عليه فقال: " دعوها فإنها جبارة " أي مستكبرة، وأما العنيد فقد اختلف أهل اللغة في اشتقاقه، قال النضر بن شميل: العنود الخلاف والتباعد والترك، وقال غيره: أصله من العند وهو الناحية يقال: فلان يمشي عندا، أي ناحية، فمعنى عاند وعند. أخذ في ناحية معرضا، وعاند فلان فلانا إذا جانبه وكان منه على ناحية.
إذا عرفت هذا فنقول: كونه جبارا متكبرا إشارة إلى الخلق النفساني وكونه عنيدا إشارة إلى الأثر الصادر عن ذلك الخلق، وهو كونه مجانبا عن الحق منحرفا عنه، ولا شك أن الإنسان الذي يكون خلقه هو التجبر والتكبر وفعله هو العنود وهو الانحراف عن الحق والصدق، كان خائبا عن كل الخيرات خاسرا عن جميع أقسام السعادات.
واعلم أنه تعالى لما حكم عليه بالخيبة ووصفه بكونه جبارا عنيدا، وصف كيفية عذابه بأمور: الأول: قوله: * (من ورائه جهنم) * وفيه إشكال وهو أن المراد: أمامه جهنم، فكيف أطلق لفظ الوراء على القدام والأمام؟
وأجابوا عنه من وجوه: الأول: أن لفظ " وراء " اسم لما يوارى عنك، وقدام وخلف متوار عنك، فصح إطلاق لفظ " وراء " على كل واحد منهما. قال الشاعر: عسى الكرب الذي أمسيت فيه * يكون وراءه فرج قريب ويقال أيضا: الموت وراء كل أحد. الثاني: قال أبو عبيدة وابن السكيت: الوراء من الأضداد يقع على الخلف والقدام، والسبب فيه أن كل ما كان خلفا فإنه يجوز أن ينقلب قداما وبالعكس، فلا جرم جاز وقوع لفظ الوراء على القدام، ومنه قوله تعالى: * (وكان وراءهم ملك يأخذ) * (الكهف: 79) أي أمامهم،