هذا التقدير يمتنع أن يقال إنها أجسام كثيفة، بل لا بد من القول بأنها أجسام لطيفة والله سبحانه ركبها تركيبا عجيبا وهي أن تكون مع لطافتها لا تقبل التفرق والتمزق والفساد والبطلان ونفوذ الأجرام اللطيفة في عمق الأجرام الكثيفة غير مستبعد ألا ترى أن الروح الإنسانية جسم لطيف، ثم إنه نفذ في داخل عمق البدن فإذا عقل ذلك فكيف يستبعد نفوذ أنواع كثيرة من الأجسام اللطيفة في داخل هذا البدن، أليس أن جرم النار يسري في جرم الفحم، وماء الورد يسري في ورق الورد، ودهن السمسم يجري في جسم السمسم فكذا ههنا، فظهر بما قررنا أن القول بإثبات الجن والشياطين أمر لا تحيله العقول ولا تبطله الدلائل، وأن الإصرار على الإنكار ليس إلا من نتيجة الجهل وقلة الفطنة، ولما ثبت أن القول بالشياطين ممكن في الجملة فنقول: الأحق والأولى أن يقال: الملائكة على هذا القول مخلوقون من النور، والشياطين مخلوقون من الدخان واللهب، كما قال الله تعالى: * (والجان خلقناه من قبل من نار السموم) * (الحجر: 27) وهذا الكلام من المشهورات عند قدماء الفلاسفة، فكيف يليق بالعاقل أن يستبعده من صاحب شريعتنا محمد صلى الله عليه وسلم.
السؤال الثاني: لم قال الشيطان: * (فلا تلوموني ولوموا أنفسكم) * وهو أيضا ملوم بسبب اقدامه على تلك الوسوسة الباطلة.
والجواب: أراد بذلك فلا تلوموني على ما فعلتم ولوموا أنفسكم عليه، لأنكم عدلتم عما توجبه هداية الله تعالى لكم. ثم قال الله تعالى حكاية عن الشيطان أنه قال: * (ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: قال ابن عباس: بمغيثكم ولا منقذكم، قال ابن الأعرابي: الصارخ المستغيث والمصرخ المغيث. يقال: صرخ فلان إذا استغاث وقال: وا غوثاه وأصرخته أغثته.
المسألة الثانية: قرأ حمزة: بمصرخي بكسر الياء. قال الواحدي: وهي قراءة الأعمش ويحيى بن وثاب. قال الفراء: ولعلها من وهم القراء فإنه قل من سلم منهم عن الوهم ولعله ظن أن الباء في قوله * (بمصرخي) * خافضة لجملة هذه الكلمة وهذا خطأ لأن الياء من المتكلم خارجة من ذلك قال، ومما نرى أنهم وهموا فيه قوله: * (نوله ما تولى ونصله جهنم) * (النساء: 115) بجزم الهاء ظنوا والله أعلم أن الجزم في الهاء وهو خطأ، لأن الهاء في موضع نصب وقد انجزم الفعل قبلها بسقوط الياء منه، ومن النحويين من تكلف في ذكر وجه لصحته إلا أن الأكثرين قالوا إنه لحن والله أعلم.
ثم قال تعالى حكاية عنه: * (إني كفرت بما أشركتموني من قبل) * وفيه مسائل: