ويدخل فيه الرحمة والرأفة والصفح والتجاوز عن الذنوب، والسعي في إيصال الخير إليهم، ودفع الشر عنهم، ومقابلة الإساءة بالإحسان. وهذه الأقسام أيضا غير متناهية وهي فروع ثابتة من شجرة معرفة الله تعالى فإن الإنسان كلما كان أكثر توغلا في معرفة الله تعالى كانت هذه الأحوال عنده أكمل وأقوى وأفضل.
وأما الصفة الرابعة: فهي قوله تعالى: * (تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها) * فهذه الشجرة أولى بهذه الصفة من الأشجار الجسمانية، لأن شجرة المعرفة موجبة لهذه الأحوال ومؤثرة في حصولها والسبب لا ينفك عن المسبب فأثر رسوخ شجرة المعرفة في أرض القلب أن يكون نظر بالعبرة كما قال: * (فاعتبروا يا أولى الأبصار) * (الحشر: 2) وأن يكون سماعه بالحكمة كما قال: * (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه) * (الزمر: 18) ونطقه بالصدق والصواب كما قال: * (كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم) * (النساء: 135) وقال عليه السلام: " قولوا الحق ولو على أنفسكم " وهذا الإنسان كلما كان رسوخ شجرة المعرفة في أرض قلبه أقوى وأكمل، كان ظهور هذه الآثار عنده أكثر، وربما توغل في هذا الباب فيصير بحيث كلما لاحظ شيئا لاحظ الحق فيه، وربما عظم ترقيه فيه فيصير لا يرى شيئا إلا وقد كان قد رأى الله تعالى قبله. فهذا هو المراد من قوله سبحانه وتعالى: * (تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها) * وأيضا فما ذكرناه إشارة إلى الإلهامات النفسانية والملكات الروحانية التي تحصل في جواهر الأرواح، ثم لا يزال يصعد منها في كل حين ولحظة ولمحة كلام طيب وعمل صالح وخضوع وخشوع وبكاء وتذلل، كثمرة هذه الشجرة.
وأما قوله: * (بإذن ربها) * ففيه دقيقة عجيبة، وذلك لأن عند حصول هذه الأحوال السنية، والدرجات العالية، قد يفرح الإنسان بها من حيث هي هي، وقد يترقى فلا يفرح بها من حيث هي هي، وإنما يفرح بها من حيث إنها من المولى، وعند ذلك فيكون فرحه في الحقيقة بالمولى لا بهذه الأحوال، ولذلك قال بعض المحققين: من آثر العرفان للعرفان فقد قال بالفاني، ومن آثر العرفان لا للعرفان، بل للمعروف فقد خاض لجة الوصول، فقد ظهر بهذا التقرير الذي شرحناه والبيان الذي فصلناه أن هذا المثال الذي ذكره الله تعالى في هذا الكتاب مثال هاد إلى عالم القدس، وحضرة الجلال، وسرادقات الكبرياء، فنسأل الله تعالى مزيد الاهتداء والرحمة إنه سميع مجيب، وذكر بعضهم في تقرير هذا المثال كلاما لا بأس به، فقال: إنما مثل الله سبحانه وتعالى الإيمان بالشجرة، لأن الشجرة لا تستحق أن تسمى شجرة، إلا بثلاثة أشياء: عرق راسخ، وأصل قائم، وأغصان عالية. كذلك الإيمان لا يتم إلا بثلاثة أشياء: معرفة في القلب، وقول باللسان، وعمل بالأبدان. والله أعلم.