القبائل في أول الأمر ما أظهروا المخالفة مع أولئك الكفار، بل كانوا في ظاهر الأمر معهم من غير إظهار مخالفة فالقوم ظنوا لهذا السبب أنهم كانوا في أول الأمر على دينهم فلهذا السبب قالوا: * (أو لتعودن في ملتنا) *.
الوجه الثاني: أن هذا حكاية كلام الكفار ولا يجب في كل ما قالوه أن يكونوا صادقين فيه فلعلهم توهموا ذلك مع أنه ما كان الأمر كما توهموه.
الوجه الثالث: لعل الخطاب وإن كان في الظاهر مع الرسل إلا أن المقصود بهذا الخطاب أتباعهم وأصحابهم ولا بأس أن يقال: إنهم كانوا قبل ذلك لوقت على دين أولئك الكفار.
الوجه الرابع: قال صاحب " الكشاف ": العود بمعنى الصيرورة كثير في كلام العرب.
الوجه الخامس: لعل أولئك الأنبياء كانوا قبل إرسالهم على ملة من الملل، ثم إنه تعالى أوحى إليهم بنسخ تلك الملة وأمرهم بشريعة أخرى وبقي الأقوام على تلك الشريعة التي صارت منسوخة مصرين على سبيل الكفر، وعلى هذا التقدير فلا يبعد أن يطلبوا من الأنبياء أن يعودوا إلى تلك الملة.
الوجه السادس: لا يبعد أن يكون المعنى: أو لتعودن في ملتنا، أي إلى ما كنتم عليه قبل ادعاء الرسالة من السكوت عن ذكر معايبة ديننا وعدم التعرض له بالطعن والقدح وعلى جميع هذه الوجوه فالسؤال زائل والله أعلم.
واعلم أن الكفار لما ذكروا هذا الكلام قال تعالى: * (فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم) * قال صاحب " الكشاف ": * (لنهلكن الظالمين) * حكاية تقتضي إضمار القول أو إجراء الإيحاء مجرى القول لأنه ضرب منه، وقرأ أبو حياة: * (ليهلكن الظالمين وليسكننكم) * بالياء اعتبارا لأوحى فإن هذا اللفظ لفظ الغيبة ونظيره قولك أقسم زيد ليخرجن ولأخرجن، والمراد بالأرض * (أرض الظالمين وديارهم) * ونظيره قوله: * (وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها) * (الأعراف: 137). * (وأورثكم أرضهم وديارهم) * (الأحزاب: 27) وعن النبي صلى الله عليه وسلم: " من آذى جاره أورثه الله داره " واعلم أن هذه الآية تدل على أن من توكل على ربه في دفع عدوه كفاه الله أمر عدوه.
ثم قال تعالى: * (ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد) * فقوله ذلك إشارة إلى أن ما قضى الله تعالى به من إهلاك الظالمين وإسكان المؤمنين ديارهم أثر ذلك الأمر حق لمن خاف مقامي وفيه وجوه: الأول: المراد موقفي وهو موقف الحساب، لأن ذلك الموقف موقف الله تعالى الذي يقف فيه عباده يوم القيامة، ونظيره قوله: * (وأما من خاف مقام ربه) * (النازعات: 40) وقوله: * (ولمن خاف مقام ربه جنتان) * (الرحمن: 46)