وأما الشبهة الثانية: وهي قولهم: إطباق السلف على ذلك الدين يدل على كونه حقا، لأنه يبعد أن يظهر للرجل الواحد ما لم يظهر للخلق العظيم، فجوابه: عين الجواب المذكور عن الشبهة الأولى، لأن التمييز بين الحق والباطل والصدق والكذب عطية من الله تعالى وفضل منه، ولا يبعد أن يخص بعض عبيده بهذه العطية وأن يحرم الجمع العظيم منها.
وأما الشبهة الثالثة: وهي قولهم: إنا لا نرضى بهذه المعجزات التي أتيتم بها، وإنما نريد معجزات قاهرة قوية. فالجواب عنها: قوله تعالى: * (وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله) * وشرح هذا الجواب أن المعجزة التي جئنا بها وتمسكنا بها حجة قاطعة وبينة قاهرة ودليل تام، فأما الأشياء التي طلبتموها فهي أمور زائدة والحكم فيها لله تعالى فإن خلقها وأظهرها فله الفضل وإن لم يخلقها فله العدل ولا يحكم عليه بعد ظهور قدر الكفاية. ثم إنه تعالى حكى عن الأنبياء والرسل عليهم السلام أنهم قالوا بعد ذلك: * (وعلى الله فليتوكل المؤمنون) * والظاهر أن الأنبياء لما أجابوا عن شبهاتهم بذلك الجواب فالقوم أخذوا في السفاهة والتخويف والوعيد، وعند هذا قالت الأنبياء عليهم السلام: لا نخاف من تخويفكم ولا نلتفت إلى تهديدكم فإن توكلنا على الله واعتمادنا على فضل الله ولعل الله سبحانه كان قد أوحى إليهم أن أولئك الكفرة لا يقدرون على إيصال الشر والآفة إليهم وإن لم يكن حصل هذا الوحي، فلا يبعد منهم أن لا يلتفتوا إلى سفاهتهم لما أن أرواحهم كانت مشرقة بالمعارف الإلهية مشرقة بأضواء عالم الغيب والروح متى كانت موصوفة بهذه الصفات فقلما يبالي بالأحوال الجسمانية وقلما يقيم لها وزنا في حالتي السراء والضراء وطوري الشدة والرخاء، فلهذا السبب توكلوا على الله وعولوا على فضل الله وقطعوا أطماعهم عما سوى الله، والذي يدل على أن المراد ما ذكرناه قوله تعالى حكاية عنهم: * (وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا) * يعني أنه تعالى لما خصنا بهذه الدرجات الروحانية، والمعارف الإلهية الربانية فكيف يليق بنا أن لا نتوكل على الله، بل اللائق بنا أن لا نتوكل إلا عليه ولا نعول في تحصيل المهمات إلا عليه، فإن من فاز بشرف العبودية ووصل إلى مكان الإخلاص والمكاشفة يقبح به أن يرجع في أمر من الأمور إلى غير الحق سواء كان ملكا له أو ملكا أو روحا أو جسما، وهذه الآية دالة على أنه تعالى يعصم أولياءه المخلصين في عبوديته من كيد أعدائهم ومكرهم، ثم قالوا: * (ولنصبرن على ما آذيتمونا) * فإن الصبر مفتاح الفرج، ومطلع الخيرات، والحق لا بد وأن يصير غالبا قاهرا، والباطل لا بد وأن يصير مغلوبا مقهورا، ثم أعادوا قولهم: * (وعلى الله فليتوكل المتوكلون) * والفائدة فيه أنهم أمروا أنفسهم بالتوكل على الله في قوله