إلى الجانب الآخر؟ فقد ظهر من هذا أن مزاولة هذه الأعمال لا تتأتى إلا مع التجرد عن الأحوال الجسمانية وترك مخالطة الخلق والاقبال بالكلية على عالم الصفاء والأرواح. وأما الرقي فإن كانت معلومة فالأمر فيها ظاهر لأن الغرض منها أن حس البصر كما شغلناه بالأمور المناسبة، لذلك الغرض فحس السمع نشغله أيضا بالأمور المناسبة لذلك الغرض، فإن الحواس متى تطابقت على التوجه إلى الغرض الواحد كان توجه النفس إليه حينئذ أقوى، وأما إن كانت بألفاظ غير معلومة حصلت للنفس هناك حالة شبيهة بالحيرة والدهشة، فإن الإنسان إذا اعتقد أن هذه الكلمات إنما تقرأ للاستعانة بشيء من الأمور الروحانية ولا يدري كيفية تلك الاستعانة حصلت للنفس هناك حالة شبيهة بالحيرة والدهشة، ويحصل للنفس في أثناء ذلك انقطاع عن المحسوسات وإقبال على ذلك الفعل وجد عظيم، فيقوى التأثير النفساني فيحصل الغرض، وهكذا القول في الدخن، قالوا: فقد ثبت أن هذا القدر من القوة النفسانية مشتغل بالتأثير، فإن انضم إليه النوع الأول من السحر وهو الاستعانة بالكواكب وتأثيراتها عظم التأثير، بل ههنا نوعان آخران، الأول: أن النفوس التي فارقت الأبدان قد يكون فيها ما هو شديد المشابهة لهذه النفوس في قوتها وفي تأثيراتها، فإذا صارت تلك النفوس صافية لم يبعد أن ينجذب إليها ما يتشابهها من النفوس المفارقة ويحصل لتلك النفوس نوع ما من التعلق بهذا البدن فتتعاضد النفوس الكثيرة على ذلك الفعل، وإذا كملت القوة وتزايدت قوى التأثير، الثاني: أن هذه النفوس الناطقة إذا صارت صافية عن الكدورات البدنية صارت قابلة للأنوار الفائضة من الأرواح السماوية والنفوس الفلكية، فتقوى هذه النفوس بأنوار تلك الأرواح، فتقوى على أمور غريبة خارقة للعادة فهذا شرح سحر أصحاب الأوهام والرقى.
النوع الثالث من السحر: الاستعانة بالأرواح الأرضية، واعلم أن القول بالجن مما أنكره بعض المتأخرين من الفلاسفة والمعتزلة، أما أكابر الفلاسفة فإنهم ما أنكروا القول به إلا أنهم سموها بالأرواح الأرضية وهي في أنفسها مختلفة منها خيرة ومنها شريرة، فالخيرة هم مؤمنوا الجن والشريرة هم كفار الجن وشياطينهم، ثم قال الخلف منهم: هذه الأرواح جواهر قائمة بأنفسها لا متحيزة ولا حالة في المتحيز وهي قادرة عالمة مدركة للجزئيات، واتصال النفوس الناطقة بها أسهل من اتصالها بالأرواح السماوية، إلا أن القوة الحاصلة للنفوس الناطقة بسبب اتصالها بهذه الأرواح الأرضية أضعف من القوة الحاصلة إليها بسبب اتصالها بتلك الأرواح السماوية، أما أن الاتصال أسهل فلأن المناسبة بين نفوسنا وبين هذه الأرواح الأرضية أسهل، ولأن المشابهة والمشاكلة بينهما أتم وأشد من المشاكلة بين نفوسنا وبين الأرواح السماوية، وأما أن القوة بسبب الاتصال بالأرواح السماوية أقوى فلأن الأرواح السماوية هي بالنسبة إلى الأرواح الأرضية كالشمس بالنسبة إلى الشعلة، والبحر بالنسبة إلى القطرة، والسلطان بالنسبة إلى الرعية. قالوا: وهذه الأشياء وإن لم يقم على وجودها برهان قاهر فلا أقل من الاحتمال والإمكان، ثم إن