وجوههم.
الثالث: من الملاحدة من أنكر إمكان وقوف الثقيل في الهواء بلا عماد وأما الأرض فقالوا إنما وقفت لأنها بطبعها طالبة للمركز فلا جرم وقفت في المركز، ودليلنا على فساد قولهم أنه سبحانه قادر على كل الممكنات ووقوف الثقيل في الهواء من الممكنات فوجب أن يكون الله قادرا عليه وتمام تقرير هاتين المقدمتين معلوم في كتب الأصول. الرابع: قال بعضهم: إظلال الجبل غير جائز لأن ذلك لو وقع لكان يجري مجرى الإلجاء إلى الإيمان وهو ينافي التكليف. أجاب القاضي بأنه لا يلجئ لأن أكثر ما فيه خوف السقوط عليهم، فإذا استمر في مكانه مدة وقد شاهدوا السماوات مرفوعة فوقهم بلا عماد جاز ههنا أن يزول عنهم الخوف فيزول الإلجاء ويبقى التكليف.
أما قوله تعالى: * (خذوا ما آتيناكم بقوة) * أي بجد وعزيمة كاملة وعدول عن التغافل والتكاسل، قال الجبائي: هذا يدل على أن الاستطاعة قبل الفعل لأنه لا يجوز أن يقال: خذ هذا بقوة ولا قوة حاصلة كما لا يقال: اكتب بالقلم ولا قلم، وأجاب أصحابنا بأن المراد: خذوا ما آتيناكم بجد وعزيمة وعندنا العزيمة قد تكون متقدمة على الفعل.
وأما قوله تعالى: * (واذكروا ما فيه) * أي احفظوا ما في الكتاب وادرسوه ولا تنسوه ولا تغفلوا عنه. فإن قيل: هلا حملتموه على نفس الذكر؟ قلنا: لأن الذكر الذي هو ضد النسيان من فعل الله تعالى فكيف يجوز الأمر به. فأما إذا حملناه على المدارسة فلا إشكال.
أما قوله تعالى: * (لعلكم تتقون) * أي لكي تتقوا، واحتج الجبائي بذلك على أنه تعالى أراد فعل الطاعة من الكل، وجوابه ما تقدم.
واعلم أن المفهوم من قوله تعالى: * (وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة) * أنهم فعلوا ذلك وإلا لم يكن ذلك أخذا للميثاق ولا صح قوله من بعد: * (ثم توليتم) * فدل ذلك منهم على القبول والالتزام.
أما قوله تعالى: * (ثم توليتم من بعد ذلك) * أي ثم أعرضتم عن الميثاق والوفاء به، قال القفال رحمه الله: قد يعلم في الجملة أنهم بعد قبول التوراة ورفع الطور تولوا عن التوراة بأمور كثيرة، فحرفوا التوراة وتركوا العمل بها وقتلوا الأنبياء وكفروا بهم وعصوا أمرهم ولعل فيها ما اختص به بعضهم دون بعض ومنها ما عمله أوائلهم ومنها ما فعله متأخروهم ولم يزالوا في التيه مع مشاهدتهم الأعاجيب ليلا ونهارا يخالفون موسى ويعترضون عليه ويلقونه بكل أذى ويجاهرون بالمعاصي في معسكرهم ذلك حتى لقد خسف ببعضهم وأحرقت النار بعضهم وعوقبوا بالطاعون وكل هذا مذكور في تراجم التوراة التي يقرون بها ثم فعل متأخروهم ما لا خفاء به حتى عوقبوا بتخريب بيت المقدس وكفروا بالمسيح وهموا بقتله. والقرآن وإن لم يكن فيه بيان ما تولوا به عن التوراة فالجملة معروفة وذلك إخبار من الله تعالى عن عناد أسلافهم فغير عجيب إنكارهم ما جاء به محمد عليه