أن يكون هو البلد الذي كانوا فيه مع فرعون واحتجوا عليه بقوله تعالى: * (ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم) * (المائدة: 21) والاستدلال بهذه الآية من ثلاثة أوجه. الأول: أن قوله تعالى: * (ادخلوا الأرض المقدسة) * إيجاب لدخول تلك الأرض، وذلك يقتضي المنع من دخول أرض أخرى. والثاني: أن قوله: * (كتب الله) * يقتضي دوام كونهم فيه. والثالث: أن قوله: * (ولا ترتدوا على أدباركم) * صريح في المنع من الرجوع عن بيت المقدس. الرابع: أنه تعالى بعد أن أمر بدخول الأرض المقدسة قال: * (فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض) * فإذا تقدم هذا الأمر ثم بين تعالى أنهم ممنوعون من دخولها هذه المدة فعند زوال العذر وجب أن يلزمهم دخولها، وإذا كان كذلك لم يجز أن يكون المراد من مصر سواها. فإن قيل: هذه الوجوه ضعيفة. أما الأول: فلأن قوله: * (ادخلوا الأرض المقدسة) * أمر والأمر للندب فلعلهم ندبوا إلى دخول الأرض المقدسة مع أنهم ما منعوا من دخول مصر، أما الثاني: فهو كقوله: * (كتب الله لكم) * فذلك يدل على دوام تلك الندبية. وأما الثالث: وهو قوله تعالى: * (ولا ترتدوا على أدباركم) * فلا نسلم أن معناه ولا ترجعوا إلى مصر بل فيه وجهان آخران. الأول: المراد لا تعصوا فيما أمرتم به إذ العرب تقول لمن عصى فيما يؤمر به: ارتد على عقبه. والمراد من هذا العصيان أن ينكر أن يكون دخول الأرض المقدسة أولى. الثاني: أن يخصص ذلك النهي بوقت معين فقط. قلنا: ثبت في أصول الفقه أن ظاهر الأمر للوجوب فيتم دليلنا بناء على هذا الأصل، وأيضا فهب أنه للندب ولكن الإذن في تركه يكون إذنا في ترك المندوب، وذلك لا يليق بالأنبياء. قوله: لا نسلم أن المراد من قوله: * (ولا ترتدوا) * لا ترجعوا. قلنا: الدليل عليه أنه لما أمر بدخول الأرض المقدسة، ثم قال بعده: * (ولا ترتدوا على أدباركم) * تبادر إلى الفهم أن هذا النهي يرجع إلى ما تعلق به ذلك الأمر. قوله: أن يخصص ذلك النهي بوقت معين، قلنا: التخصيص خلاف الظاهر، أما أبو مسلم الأصفهاني فإنه جوز أن يكون المراد مصر فرعون واحتج عليه بوجهين. الأول: أنا إن قرأنا: * (اهبطوا مصر) * بغير تنوين كان لا محالة علما لبلد معين وليس في العالم بلدة ملقبة بهذا اللقب سوى هذه البلدة المعينة فوجب حمل اللفظ عليه ولأن اللفظ إذا دار بين كونه علما وبين كونه صفة فحمله على العلم أولى من حمله على الصفة مثل ظالم وحادث، فإنهما لما جاءا علمين كان حملهما على العلمية أولى. أما إن قرأناه بالتنوين فإما أن نجعله مع ذلك اسم علم ونقول: إنه إنما دخل فيه التنوين لسكون وسطه كما في نوح ولوط فيكون التقرير أيضا ما تقدم بعينه، وأما إن جعلناه اسم جنس فقوله تعالى: * (اهبطوا مصرا) * يقتضي التخيير كما إذ قال: أعتق رقبة فإنه يقتضي التخيير بين جميع رقاب الدنيا. الوجه الثاني: أن الله تعالى ورث بني إسرائيل أرض مصر وإذا كانت موروثة لهم امتنع أن يحرم عليهم دخولها بيان أنها موروثة لهم، قوله تعالى: * (فأخرجناهم من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم) * إلى قوله: * (كذلك وأورثناها بني إسرائيل) * (الشعراء: 57 - 59) ولما ثبت أنها
(١٠١)