وذلك: لأن تشخيص موضوعات الأحكام من وحدة الموضوع وتعدده، وبقائه وانعدامه في جريان الاستصحاب وعدمه، وفي إثبات الحكم وعدمه، تارة يتوقف على تشخيص صدق الحكم على ذلك الموضوع وعدمه، بواسطة تشخيص وجود المناط فيه وعدمه، كموضوع الكرية لحكم الطهارة، والنصاب لحكم الزكاة، والمسافرة لحكم القصر، وتارة لا يتوقف على تشخيص صدق الحكم والمناط، كموضوع النجاسة لحكم الاجتناب.
والمراد من الأحكام الشرعية المبتنية على التدقيقات العقلية، لا على التسامحات العرفية، إنما هو القسم الأول.
والمراد من الأحكام الشرعية المبتنية على حسب متفاهم العرف، إما هو القسم الثاني، فعدم إجراء حكم السفر، والكر، والنصاب، على موضوعاتها الناقصة عن مقاديرها بمقدار شعيرة ليس من جهة مجرد عدم صدق الموضوع بحسب التدقيق العقلي، بل إنما هو من جهة ضميمة عدم صدقه العرفي بعد توقف مسامحة العرف على إحرازه تحقق المناط في المسامح فيه، المفروض قصور فهمهم عن مناط الأحكام الشرعية، فضلا عن إحرازهم تحققه فيه، وان صدق الموضوع عليه مع الغض عن حكمه الشرعي، وعدم إجراء حكم النجاسة على الدخان المتصاعد عن النجس والبخار الحاصل منه مع عدم انفكاكها عن اجزاء متصاغرة جدا من العين النجسة، ليس من جهة مجرد عدم صدق موضوع الحكم والعين النجسة عليها بحسب العرف، بل إنما هو من جهة ضميمة عدم صدقه العقلي لأجل ترتب حكمه الشرعي بعد قصوره عن مناط ترتبه وان صدق عليه مع الغض عن حكمه الشرعي.
وبالجملة فتشخيص موضوعات الأحكام الشرعية موكول على حسب متفاهم العرف ومسامحاتهم، والمراد من قولهم ليست منوطة بالمسامحات العرفية، إنما هو عدم إناطتها بالمسامحات العرفية التي لا مسرح لتحققها في الأحكام الشرعية، فالمراد من هذا السلب السلب بانتفاء الموضوع لا الحكم، ولهذا ترى الفقهاء يحكمون باستصحاب حكم الكرية على ما يتناقص من الماء بمقدار ما يتسامح العرف في إطلاق الكرية عليه.