والذي يمكن أن يقال: إن بعض المشتقات - وهو الكثير منها - قد ألغي عنها معنى الوصفية وصارت بمنزلة أسماء الجوامد أسماء أجناس كالمنارة والمسجد والمحراب ونحوها؛ فإنه لا ينقدح في الذهن بسماع تلك الألفاظ موضع النور من المنارة، ومحل السجدة من المسجد، ومكان الحرب من المحراب، بل المتبادر منها عند العرف ذوات تلك الحقائق، ولا ينسبق المبادئ إلى الذهن أصلا. بل المفتاح أيضا كذلك؛ لأنه لا يفهم منه إلا الشيء المخصوص.
وأما المشتقات التي لم يلغ عنها معنى الوصفية - كالتاجر والصائغ ونحوهما - ويتبادر منها الصنعة والحرفة، فبعد كون الالتزام بتعدد الوضع بعيدا يمكن أن يقال:
إنه استعملت مجموع المادة والهيئة في تلك المعاني أولا بنحو المجاز بمناسبة - مثل مجاز المشهور - حتى صارت حقيقة فيها.
هذا ما ذهبنا إليه في الدورة السابقة، ولكنه لا يتم على طريقتنا في باب المجاز؛ لأنه قلنا: إنه لم يستعمل اللفظ في المجاز في غير ما وضع له، بل استعمل فيما وضع له، من دون تأول وادعاء، والادعاء إنما هو في التطبيق.
ويشكل التفكيك بين أقسام المجاز بأن يقال: إنه في غير ما نحن فيه يكون الادعاء في التطبيق، وأما في ما نحن فيه فاستعملت في غير ما وضع له. بل الأمر في جميع المجازات واحد، وجميعها ترتضع من ثدي واحد، وعلى وزان واحد.
والذي ينبغي أن يقال على طريقتنا: هو أنه كثر تطبيق معانيها المستعملة فيها على تلك المعاني المجازية؛ حتى صارت بواسطة كثرة الاستعمال مصاديق حقيقة لها.
وبالجملة: لم يستعمل اللفظ في الحرفة أو الصنعة مجازا، بل استعمل في معناه الموضوع له، لكنه انطبق المعنى الموضع له عليها مجازا. وتكرر ذلك الانطباق حتى صارت مصداقا حقيقيا له، من دون تأول ومجاز، فتدبر.