وبالجملة: قد يريد الإنسان ما يشتاق إليه نفسه، وقد يريد ما يكرهه؛ لحكم العقل وإغرائه على ترجيح المصلحة القوية على المصلحة الضعيفة، وكم فرق بين ترجيح العقل أحد طرفي الفعل على الآخر، وبين اشتياقه لأحدهما دون الآخر!
بداهية أن الترجيح حكم العقل، والاشتياق من صفات النفس.
فتحصل: أن الشوق المؤكد غير الإرادة، بل لم يكن من مبادئها دائما، ونفس الاشتياق - بلغ ما بلغ - ما لم تضم إليه أمر آخر لا يوجب إتيان الفعل خارجا.
ولو سلم كون الاشتياق من مبادئ الإرادة، أو أنها هي الشوق المؤكد لكن الضرورة قاضية بوجود الشدة والضعف في الإرادة؛ بداهة أن إرادة إنقاذ المحبوب عن الغرق أقوى من إرادة شرب الماء للتبريد.
وكم فرق بين إرادة الحكومة والسلطنة على الناس، وبين إرادة كنس البيت!
ولذا قد لا يبالي للوصول إلى مراده في الأولى من لا تقوى له لهلاك نفس أو نفوس، دون الثانية.
وبالجملة: يختلف إرادة الفاعل فيما يصدر منه قوة وضعفا حسب اختلاف أهمية المصالح والغايات المطلوبة منه؛ فالإرادة المحركة لنجاة نفسه أقوى من المحركة لها للقاء محبوبه، وهي أقوى من المحركة لها للتفرج والتفريح، وهكذا...
فظهر: أن الذي يقتضيه الوجدان، بل عليه البرهان هو أن الإرادة لها مراتب، وهي غير الاشتياق، والاشتياق - بأي مرتبة كانت - لا يوجب بعثا، وهذا مما لا إشكال فيه.
والإشكال إنما هو في كيفية قبول الإرادة للشدة والضعف، مع أنها حقيقة بسيطة، كما أورد ذلك الإشكال في الوجود والعلم وغيرهما من الحقائق البسيطة.