البعث والقيامة وهي أمران: أحدهما: حصول الخسران. والثاني: حمل الأوزار العظيمة. أما النوع الأول: وهو حصول الخسران فتقريره أنه تعالى بعث جوهر النفس الناطقة القدسية الجسماني وأعطاه هذه الآلات الجسمانية والأدوات الجسدانية وأعطاه العقل والتفكر أجل أن يتوصل باستعمال هذه الآلات والأدوات إلى تحصيل المعارف الحقيقية والأخلاق الفاضلة التي يعظم منافعها بعد الموت فإذا استعمل الإنسان هذه الآلات والأدوات والقوة العقلية والقوة الفكرية في تحصيل هذه اللذات الدائرة والسعادات المنقطعة ثم انتهى الإنسان إلى آخر عمره فقد خسر خسرانا مبينا لأن رأس المال قد فنى والربح الذي ظن أنه هو المطلوب فنى أيضا وانقطع فلم يبق في يده لا من رأس المال أثر ولا من الربح شيء. فكان هذا هو الخسران المبين. وهذا الخسران إنما يحصل لمن كان منكرا للبعث والقيامة وكان يعتقد أن منتهى السعادات ونهاية الكمالات هو هذه السعادات العاجلة الفانية. أما من كان مؤمنا بالبعث والقيامة فإنه لا يغتر بهذه السعادات الجسمانية ولا يكتفي بهذه الخيرات العاجلة بل يسعى في إعداد الزاد ليوم المعاد فلم يحصل له الخسران فثبت بما ذكرنا أن الذين كذبوا بلقاء الله وأنكروا البعث والقيامة قد خسروا خسرانا مبينا وأنهم عند الوصول إلى موقف القيامة يتحسرون على تفريطهم في تحصيل الزاد ليوم المعاد. والنوع الثاني من وجوه: خسرانهم أنهم يحملون أوزارهم على ظهورهم. وتقرير الكلام فيه أن كمال السعادة في الاقبال على الله تعالى والاشتغال بعبوديته والاجتهاد في حبه وخدمته وأيضا في الانقطاع عن الدنيا وترك محبتها وفي قطع العلاقة بين القلب وبينها، فمن كان منكرا للبعث والقيامة، فإنه لا يسعى في إعداد الزاد لموقف القيامة، ولا يسعى في قطع العلاقة بين القلب وبين الدنيا، فإذا مات بقي كالغريب في عالم الروحانيات، وكالمنقطع عن أحبابه وأقاربه الذين كانوا في عالم الجسمانيات فيحصل له الحسرات العظيمة بسبب فقدان الزاد وعدم الاهتداء إلى المخالطة بأهل ذلك العالم ويحصل له الآلام العظيمة بسبب الانقطاع عن لذات هذا العالم والامتناع عن الاستسعاد بخيرات هذا العالم. فالأول: هو المراد من قوله * (قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها) * والثاني: هو المراد من قوله * (وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم) * فهذا تقرير المقصود من هذه الآية. المسألة الثانية: المراد من الخسران فوت الثواب العظيم وحصول العقاب العظيم * (والذين كذبوا بلقاء الله) * المراد منه الذين أنكروا البعث والقيامة، وقد بالغنا في شرح هذه الكلمة عند قوله * (الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم) * (البقرة: 46) وإنما حسنت هذه الكناية أن موقف القيامة موقف لا حكم
(١٩٧)