إنما يسمى صناعة إذا صار مستقرا راسخا متمكنا، فجعل جرم العاملين ذنبا غير راسخ، وذنب التاركين للنهي عن المنكر ذنبا راسخا، والأمر في الحقيقة كذلك لأن المعصية مرض الروح، وعلاجه العلم بالله وبصفاته وبأحكامه، فإذا حصل هذا العلم وما زالت المعصية كان مثل المرض الذي شرب صاحبه الدواء فما زال، فكما أن هناك يحصل العلم بأن المرض صعب شديد لا يكاد يزول، فكذلك العالم إذا أقدم على المعصية دل على أن مرض القلب في غاية القوة والشدة، وعن ابن عباس: هي أشد آية في القرآن، وعن الضحاك: ما في القرآن آية أخوف عندي منها والله أعلم.
قوله تعالى: * (وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا) *.
اعلم أن في الآية مسائل: المسألة الأولى: في هذا الموضع إشكال وهو أن الله تعالى حكى عن اليهود أنهم قالوا ذلك، ولا شك في أن الله تعالى صادق في كل ما أخبر عنه، ونرى اليهود مطبقين متفقين على أنا لا نقول ذلك ولا نعتقده البتة، وأيضا المذهب الذي يحكى عن العقلاء لا بد وأن يكون معلوم البطلان بضرورة العقل، والقول بأن يد الله مغلولة قول باطل ببديهة العقل، لأن قولنا (الله) اسم لموجود قديم، وقادر على خلق العالم وإيجاده وتكوينه، وهذا الموجود يمتنع أن تكون يده مغلولة وقدرته مقيدة وقاصرة، وإلا فكيف يمكنه مع القدرة الناقصة حفظ العالم وتدبيره.
إذا ثبت هذا فنقول: حصل الاشكال الشديد في كيفية تصحيح هذا النقل وهذه الرواية فنقول: عندنا فيه وجوه: الأول: لعل القوم إنما قالوا هذا على سبيل الإلزام، فإنهم لما سمعوا قاوله تعالى: * (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا) * (البقرة: 245) قالوا: لو احتاج إلى القرض لكان فقيرا عاجزا، فلما حكموا بأن الإله الذي يستقرض شيئا من عباده فقير مغلول اليدين، لا جرم حكى الله عنهم هذا الكلام الثاني: لعل القوم لما رأوا أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم في غاية الشدة والفقر والحاجة قالوا على