إذا رأى الملك فإما أن يراه على صورته الأصلية أو على صورة البشر. فإن كان الأول لم يبق الآدمي حيا، ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى جبريل عليه السلام على صورته الأصلية غشي عليه، وإن كان الثاني فحينئذ يكون المرئي شخصا على صورة البشر، وذلك لا يتفاوت الحال فيه سواء كان هو في نفسه ملكا أو بشرا. ألا ترى أن جميع الرسل عاينوا الملائكة في صورة البشر كأضياف إبراهيم، وأضياف لوط، وكالذين تسوروا المحراب، وكجبريل حيث تمثل لمريم بشرا سويا. والوجه الثالث: أن إنزال الملك آية باهرة جارية مجرى الالجاء، وإزالة الاختيار، وذلك مخل بصحة التكليف. الوجه الرابع: أن إنزال الملك وإن كان يدفع الشبهات المذكورة إلا أنه يقوي الشبهات من وجه آخر، وذلك لأن أي معجزة ظهرت عليه قالوا هذا فعلك فعلته باختيارك وقدرتك، ولو حصل لنا مثل ما حصل لك من القدرة والقوة والعلم لفعلنا مثل ما فعلته أنت، فعلمنا أن إنزال الملك وإن كان يدفع الشبهة من الوجوه المذكورة لكنه يقوي الشبهة من هذه الوجوه. وأما قوله * (ثم لا ينظرون) * فالفائدة في كلمة * (ثم) * التنبيه على أن عدم الانظار أشد من قضاء الأمر، لأن مفاجأة الشدة أشد من نفس الشدة. وأما الثاني: فقوله * (ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا) * أي لجعلناه في صورة البشر. والحكمة فيه أمور: أحدها: أن الجنس إلى الجنس أميل. وثانيها: أن البشر لا يطيق رؤية الملك، وثالثها: ان طاعات الملائكة قوية فيستحقرون طاعة البشر، وربما لا يعذرونهم في الاقدام على المعاصي. ورابعها: أن النبوة فضل من الله فيختص بها من يشاء من عباده، سواء كان ملكا أو بشرا. ثم قال: * (وللبسنا عليهم ما يلبسون) * قال الواحدي: يقال لبست الأمر على القوم ألبسه لبسا إذا شبهته عليهم وجعلته مشكلا، وأصله من التستر بالثوب، ومنه لبس الثوب لأنه يفيد ستر النفس والمعنى أنا إذا جعلنا الملك في صورة البشر فهم يظنون كون ذلك الملك بشرا فيعود سؤالهم أنا لا نرضى برسالة هذا الشخص. وتحقيق الكلام أن الله لو فعل ذلك لصار فعل الله نظيرا لفعلهم في التلبيس، وإنما كان ذلك تلبيسا لأن الناس يظنون أنه بشر مع أنه ليس كذلك، وإنما كان فعلهم تلبيسا لأنهم يقولون لقومهم إنه بشر مثلكم والبشر لا يكون رسولا من عند الله تعالى.
قوله تعالى * (ولقد استهزىء برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزءون) *.