ثم قال تعالى: * (ما على الرسول إلا البلاغ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون) *.
واعلم أنه تعالى لما قدم الترهيب والترغيب بقوله * (أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم) * (المائدة: 98) أتبعه بالتكليف بقوله * (ما على الرسول إلا البلاغ) * يعني أنه كان مكلفا بالتبليغ فلما بلغ خرج عن العهدة وبقي الأمر من جانبكم وأنا عالم بما تبدون وبما تكتمون، فإن خالفتم فاعلموا أن الله شديد العقاب، وإن أطعتم فاعلموا أن الله غفور رحيم.
ثم قال تعالى: * (قل لا يستوي الخبيث والطيب) *. اعلم أنه تعالى لما زجر عن المعصية ورغب في الطاعة بقوله * (اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم) * (المائدة: 98) ثم أتبعه بالتكليف بقوله * (ما على الرسول إلا البلاغ) * (المائدة: 99) ثم أتبعه بالترغيب في الطاعة والتنفير عن المعصية بقوله * (والله يعلم ما تبدون وما تكتمون) * (المائدة: 99) أتبعه بنوع آخر من الترغيب في الطاعة والتنفير عن المعصية فقال: * (قل لا يستوي الخبيث والطيب) * وذلك لأن الخبيث والطيب قسمان: أحدهما: الذي يكون جسمانيا، وهو ظاهر لكل أحد، والثاني: الذي يكون روحانيا، وأخبث الخبائث الروحانية الجهل والمعصية، وأطيب الطيبات الروحانية معرفة الله تعالى وطاعة الله تعالى، وذلك لأن الجسم الذي يلتصق به شيء من النجاسات يصير مستقذرا عند أرباب الطباع السليمة، فكذلك الأرواح العارفة بالله تعالى المواظبة على خدمة الله تعالى، فإنها تصير مشرقة بأنوار المعارف الإلهية مبتهجة بالقرب من الأرواح المقدسة الطاهرة، وكما أن الخبيث والطبيب في عالم الجسمانيات لا يستويان، فكذلك في عالم الروحانيات لا يستويان، بل المباينة بينهما في عالم الروحانيات أشد، لأن مضرة خبث الخبيث الجسماني شيء قليل، ومنفعته طيبة مختصرة، وأما خبث الخبيث الروحاني فمضرته عظيمة دائمة أبدية، وطيب الطيب الروحاني فمنفعته عظيمة دائمة أبدية، وهو القرب من جوار رب العالمين، والانخراط في زمرة الملائكة المقربين، والمرافقة من النبيين والصديقين والشهداء الصالحين، فكان هذا من أعظم وجوه الترغيب في الطاعة والتنفير