أفكت الأرض إذا صرف عنها المطر، ومعنى قوله * (أنى يؤفكون) * أنى يصرفون عن الحق، قال أصحابنا: الآية دلت على أنهم مصروفون عن تأمل الحق، والإنسان يمتنع أن يصرف نفسه عن الحق والصدق إلى الباطل والجهل والكذب، لأن العاقل لا يختار لنفسه ذلك، فعلمنا أن الله سبحانه وتعالى هو الذي صرفهم عن ذلك.
ثم قال تعالى:
* (قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا والله هو السميع العليم) *.
وهذا دليل آخر على فساد قول النصارى، وهو يحتمل أنواعا من الحجة: أن اليهود كانوا يعادونه ويقصدونه بالسوء، فما قدر على الاضرار بهم، وكان أنصاره وصحابته يحبونه فما قدر على إيصال نفع من منافع الدنيا إليهم، والعاجز عن الاضرار والنفع كيف يعقل أن يكون إلها. الثاني: أن مذهب النصارى أن اليهود صلبوه ومزقوا أضلاعه، ولما عطش وطلب الماء منهم صبوا الخل في منخريه، ومن كان في الضعف هكذا كيف يعقل أن يكون إلها. الثالث: أن إله العالم يجب أن يكون غنيا عن كل ما سواه، ويكون كل ما سواه محتاجا إليه، فلو كان عيسى كذلك لامتنع كونه مشغولا بعبادة الله تعالى، لأن الإله لا يعبد شيئا، إنما العبد هو الذي يبعد الإله، ولما عرف بالتواتر كونه كان مواظبا على الطاعات والعبادات علمنا أنه إنما كان يفعلها لكونه محتاجا في تحصيل المنافع ودفع المضار إلى غيره، ومن كان كذلك كيف يقدر على إيصال المنافع إلى العباد ودفع المضار عنهم، وإذا كان كذلك كان عبدا كسائر العبيد، وهذا هو عين الدليل الذي حكاه الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام حيث قال لأبيه * (لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا) * (مريم: 42).
ثم قال تعالى: * (والله هو السميع العليم) * والمراد منه التهديد يعني سميع بكفرهم عليم بضمائرهم.
قوله تعالى: * (قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق) *.
اعلم أنه تعالى لما تكلم أولا على أباطيل النصارى وأقام الدليل القاهر على بطلانها وفسادها، فعند ذلك خاطب مجموع الفريقين بهذا الخطاب فقال * (يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق) * والغلو نقيض التقصير. ومعناه الخروج عن الحد، وذلك لأن الحق بين طرفي الافراط والتفريط، ودين الله بين الغلو والتقصير. وقوله * (غير الحق) * صفة المصدر، أي