بهذا الطريق اللطيف، وهو إلقاء تعظيم الكعبة في قلوبهم حتى يصير ذلك سببا لحصول الأمان في بعض الأمكنة، وفي بعض الأزمنة، فحينئذ تستقيم مصالح معاشهم في ذلك المكان، وفي ذلك الزمان، وهذا هو بعينه الدليل الذي تمسك به المتكلمون على كونه تعالى عالما، فإنهم يقولون إن أفعاله محكمة متقنة مطابقة للمصالح، وكل من كان كذلك كان عالما، ومن المعلوم أن إلقاء تعظيم الكعبة في قلوب العرب لأجل أن يصير ذلك سببا لحصول الأمن في بعض الأمكنة، وفي بعض الأزمنة، ليصير ذلك سبب اقتدارهم على تحصيل مصالح المعيشة، فعل في غاية الاتقان والاحكام، فيكون ذلك دليلا قاهرا وبرهانا باهرا، على أن صانع العالم سبحانه وتعالى عالم بجميع المعلومات، فلا جرم قال ذلك * (لتعلموا) * أي ذلك التدبير اللطيف لأجل أن تتفكروا فيه، فتعلموا أنه تدبير لطيف وفعل محكم متقن، فتعلموا * (أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض) * ثم إذا عرفتم ذلك، عرفتم أن علمه سبحانه وتعالى صفة قديمة أزلية واجبة الوجود، وما كان كذلك، امتنع أن يكون مخصوصا بالبعض دون البعض، فوجب كونه متعلقا بجميع المعلومات، وإذا كان كذلك، كان الله سبحانه عالما بجميع المعلومات، فلذلك قال: * (وأن الله بكل شيء عليم) * فما أحسن هذا الترتيب في هذا التقدير والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
قوله تعالى * (اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم) *.
لما ذكر الله تعالى أنواع رحمته بعباده، ذكر بعده أنه شديد العقاب، لأن الإيمان لا يتم إلا بالرجاء والخوف كما قال عليه الصلاة والسلام: " لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا " ثم ذكر عقيبه ما يدل على الرحمة وهو كونه غفورا رحيما وذلك يدل على أن جانب الرحمة أغلب، لأنه تعالى ذكر فيما قبل أنواع رحمته وكرمه، ثم ذكر أنه شديد العقاب ثم ذكر عقيبه وصفين من أوصاف الرحمة وهو كونه غفورا رحيما، وهذا تنبيه على دقيقة وهي أن ابتداء الخلق والإيجاد كان لأجل الرحمة، والظاهر أن الختم لا يكون إلا على الرحمة.