تكون معجزة بل لمجموع أمور كثيرة: أحدها: أنا نريد أن نأكل منها فإن الجوع قد غلبنا ولا نجد طعاما آخر، وثانيها: أنا وإن علمنا قدرة الله تعالى بالدليل، ولكنا إذا شاهدنا نزول هذه المائدة ازداد اليقين وقيت الطمأنينة، وثالثها: أنا وإن علمنا قدرة الله تعالى بالدليل، ولكنا إذا شاهدنا نزول هذه المائدة ازداد اليقين وقويت الطمأنينة، وثالثها: أنا وإن علمنا بسائر المعجزات صدقك، ولكن إذا شاهدنا هذه المعجزة ازداد اليقين والعرفان وتأكدت الطمأنينة. ورابعها: أن جميع تلك المعجزات التي أوردتها كانت معجزات أرضية، وهذه معجزة سماوية وهي أعجب وأعظم، فإذا شاهدناها كنا عليها من الشاهدين، نشهد عليها عند الذين لم يحضروها من بني إسرائيل، ونكون عليها من الشاهدي لله بكمال القدرة ولك بالنبوة. ثم قال تعالى:
* (قال عيسى بن مريم اللهم ربنآ أنزل علينا مآئدة من السمآء تكون لنا عيدا لاولنا وءاخرنا وءاية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين) * وفيه مسائل: المسألة الأولى: أما الكلام في * (اللهم) * فقد تقدم بالاستقصاء في سورة آل عمران في قوله) * قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء) * (آل عمران: 26) فقوله: * (اللهم) * نداء، وقوله * (ربنا) * نداء ثان وأما قوله * (تكون لنا) * صفة للمائدة وليس بجواب للأمر، وفي قراءة عبد الله * (تكن) * لأنه جعله جواب الأمر. قال الفراء: وما كان من نكرة قد وقع عليها أمر جاز في الفعل بعده الجزم والرفع، ومثاله قوله تعالى: * (فهب لي من لدنك وليا * يرثني) * (مريم: 5 - 6) بالجزم والرفع * (فأرسله معي ردءا يصدقني) * (القصص: 34) بالجزم والرفع، وأما قوله * (عيدا لأولنا وآخرنا) * أي نتخذ اليوم الذي تنزل فيه المائدة عيدا نعظمه نحن ومن يأتي بعدنا، ونزلت يوم الأحد فاتخذه النصارى عيدا، والعيد في اللغة اسم لما عاد إليك في وقت معلوم، واشتقاقه من عاد يعود فأصله هو العود، فسمي العيد عيدا لأنه يعود كل سنة بفرح جديد، وقوله * (وآية منك) * أي دلالة على توحيدك وصحة نبوة رسولك * (وارزقنا) * أي وارزقنا طعاما نأكله وأنت خير الرازقين. المسألة الثانية: تأمل في هذا الترتيب فإن الحواريين لما سألوا المائدة ذكروا في طلبها أغراضا، فقدموا ذكر الأكل فقالوا * (نريد أن نأكل منها) * (المائدة: 113) وأخروا الأغراض الدينية الروحانية، فأما عيسى فإنه لما طلب المائدة وذكر أغراضه فيها قدم الأغراض الدينية وأخر غرض الأكل حيث قال * (وأرزقنا) * وعند هذا يلوح لك مراتب درجات الأرواح في كون بعضها روحانية وبعضها جسمانية، ثم إن عيسى عليه السلام لشدة صفاء دينه وإشراق روحه لما ذكر الزرق بقوله * (وأرزقنا) * لم يقف عليه بل انتقل من الرزق إلى الرزاق فقال * (وأنت خير الرازقين) * فقوله * (ربنا) *