وليس لهما حقيقة معتبرة. ولما بين تعالى ذلك قال بعده * (وللدار الآخرة خير للذين يتقون) * وصد الآخرة بكونها خيرا، ويدل على أن الأمر كذلك حصول التفات بين أحوال الدنيا وأحوال الآخرة في أمور أحدها: أن خيرات الدنيا خسيسة وخيرات الآخرة شريفة بيان أن الأمر كذلك وجوه: الأول: أن خيرات الدنيا ليست إلا قضاء الشهوتين، وهو في نهاية الخساسة، بدليل أن الحيوانات الخسيسة تشارك الإنسان فيه، بل ربما كان أمر تلك الحيوانات فيها أكمل من أمر الإنسان، فإن الجمل أكثر أكلا، والديك والعصفور أكثر وقاعا، والذئب أقوى على الفساد والتمزيق، والعقرب أقوى على الايلام، ومما يدل على خساستها أنها لو كانت شريفة لكان الإكثار منها يوجب زيادة الشرف، فكان يجب أن يكون الإنسان الذي وقف كل عمره على الأكل والوقاع أشرف الناس، وأعلاهم درجة، ومعلوم بالبديهة أنه ليس الأمر كذلك بل مثل هذا الإنسان يكون ممقوتا مستقذرا مستحقرا يوصف بأنه بهيمة أو كلب أو أخس، ومما يدل على ذلك أن الناس لا يفتخرون بهذه الأحوال بل يخفونها، ولذلك كان العقلاء عند الاشتغال بالوقاع يختفون ولا يقدمون على هذه الأفعال بمحضر من الناس وذلك يدل على أن هذه الأفعال لا توجب الشرف بل النقص، ومما يدل على ذلك أيضا أن الناس إذا شتم بعضهم بعضا لا يذكرون فيه إلا الألفاظ الدالة على الوقاع، ولولا أن تلك اللذة من جنس النقصانات، وإلا لما كان الأمر كذلك، ومما يدل عليه أن هذه اللذات ترجع حقيقتها إلى دفع الآلام، ولذلك فإن كل من كان أشد جوعا وأقوى حاجة كان التذاذه بهذه الأشياء أكمل له وأقوى، وإذا كان الأمر كذلك ظهر أنه لا حقيقة لهذه اللذات في نفس الأمر. ومما يدل عليه أيضا أن هذه اللذات سريعة الاستحالة سريعة الزوال سريعة الانقضاء. فثبت بهذه الوجوه الكثيرة خساسة هذه اللذات. وأما السعادات الروحانية فإنها سعادات شريفة عالية باقية مقدسة، ولذلك فإن جميع الخلق إذا تخيلوا في الإنسان كثرة العلم وشدة الانقباض عن اللذات الجسمانية، فإنهم بالطبع يعظمونه ويخدمونه ويعدون أنفسهم عبيدا لذلك الإنسان وأشقياء بالنسبة إليه، وذلك يدل على شهادة الفطرة الأصلية بخساسة اللذات الجسمانية، وكمال مرتبة اللذات الروحانية.
الوجه الثاني: في بيان أن خيرات الآخرة أفضل من خيرات الدنيا، وهو أن نقول: هب أن هذين النوعين تشاركا في الفضل والمنقبة، إلا أن الوصول إلى الخيرات الموعودة في عد القيامة معلوم قطعا. وأما الوصول إلى الخبرات الموعودة في غد الدنيا فغير معلوم بل ولا مظنون، فكم من سلطان قاهر في بكرة اليوم صار تحت التراب في آخر ذلك اليوم، وكم من أمير كبير أصبح في