فكان طلبها في الدنيا مستنكرا. وثانيها: أن حكم الله تعالى أن يزيل التكليف عن العبد حال ما يرى الله فكان طلب الرؤية طلبا لإزالة التكليف وهذا على قول المعتزلة أولى، لأن الرؤية تتضمن العلم الضروري والعلم الضروري ينافي التكليف، وثالثها: أنه لما تمت الدلائل على صدق المدعي كان طلب الدلائل الزائدة تعنتا والمتعنت يستوجب التعنيف، ورابعها: لا يمتنع أن يعلم الله تعالى أن في منع الخلق عن رؤيته سبحانه في الدنيا ضربا من المصلحة المهمة، فلذلك استنكر طلب الرؤية في الدنيا كما علم أن في إنزال الكتاب من السماء وإنزال الملائكة من السماء مفسدة عظيمة فلذلك استنكر طلب ذلك والله أعلم.
البحث الثاني: للمفسرين في الصاعقة قولان. الأول: أنها هي الموت وهو قول الحسن وقتادة واحتجوا عليه بقوله تعالى: * (فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله) * (الزمر: 68)، وهذا ضعيف لوجوه. أحدها: قوله تعالى: * (فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون) * ولو كانت الصاعقة هي الموت لامتنع كونهم ناظرين إلى الصاعقة، وثانيها: أنه تعالى قال في حق موسى: * (وخر موسى صعقا) * (الأعراف: 143) أثبت الصاعقة في حقه مع أنه لم يكن ميتا لأنه قال: * (فلما أفاق) * والإفاقة لا تكون عن الموت بل عن الغشي، وثالثها: أن الصاعقة وهي التي تصعق وذلك إشارة إلى سبب الموت. ورابعها: أن ورودها وهم مشاهدون لها أعظم في باب العقوبة منها إذا وردت بغتة وهم لا يعلمون. ولذلك قال: * (وأنتم تنظرون) * منبها على عظم العقوبة، القول الثاني: وهو قول المحققين: إن الصاعقة هي سبب الموت ولذلك قال في سورة الأعراف: * (فلما أخذتهم الرجفة) * واختلفوا في أن ذلك السبب أي شيء كان على ثلاثة أوجه. أحدها: أنها نار وقعت من السماء فأحرقتهم. وثانيها: صيحة جاءت من السماء، وثالثها: أرسل الله تعالى جنودا سمعوا بخسها فخروا صعقين ميتين يوما وليلة.
أما قوله تعالى: * (ثم بعثناكم من بعد موتكم) * لأن البعث قد (لا) يكون إلا بعد الموت، كقوله تعالى: * (فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا، ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا) * (الكهف: 11، 12). فإن قلت: هل دخل موسى عليه السلام في هذا الكلام؟ قلت: لا، لوجهين. الأول: أنه خطاب مشافهة فلا يحب أن يتناول موسى عليه السلام. الثاني: أنه لو تناول موسى لوجب تخصيصه بقوله تعالى في حق موسى: * (فلما أفاق) * مع أن لفظة الإفاقة لا تستعمل في الموت، وقال ابن قتيبة: إن موسى عليه السلام قد مات وهو خطأ لما بيناه. أما قوله تعالى: * (لعلكم تشكرون) * فالمراد أنه تعالى إنما بعثهم بعد الموت في دار الدنيا ليكلفهم وليتمكنوا من الإيمان ومن تلافي ما صدر عنهم من الجرائم، أما أنه كلفهم فلقوله تعالى: * (لعلكم تشكرون) * ولفظ الشكر يتناول جميع الطاعات لقوله تعالى: * (اعملوا آل داود شكرا) * (سبأ: 13)، فإن قيل: كيف يجوز أن يكلفهم وقد أماتهم ولو جاز ذلك فلم لا يجوز أن يكلف أهل الآخرة إذا بعثهم بعد الموت؟ قلنا: الذي يمنع من تكليفهم في الآخرة ليس هو الإماتة ثم الإحياء، وإنما يمنع من ذلك أنه قد اضطرهم يوم القيامة إلى معرفته وإلى معرفة ما في الجنة من اللذات