المقصود من أمر الناس بذلك إما النصيحة أو الشفقة، وليس من العقل أن يشفق الانسان على غيره أو أن ينصح غيره ويهمل نفسه فحذرهم الله تعالى من ذلك بأن قرعهم بهذا الكلام.
واختلفوا في المراد بالبر في هذا الموضع على وجوه، أحدها: وهو قول السدى أنهم كانوا يأمرون الناس بطاعته الله ويهونهم عن معصية الله، وهم كانوا يتركون الطاعة ويقدمون على المعصية، وثانيها: قول ابن جريج أنهم كانوا يأمرون الناس بالصلاة والزكاة وهم كانوا يتركونهما وثالثهما: أنه إذا جاءهم أحد في الخفية لاستعلام أمر محمد صلى الله عليه وسلم قالوا هو صادق فيما يقول وأمره حق فاتبعوه، وهم كانوا لا يتبعونه لطمعهم في الهدايا والصلات التي كانت تصل إليهم من أتباعهم، ورابعها: أن جماعة من اليهود كانوا قبل مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم يخبرون مشركي العرب أن رسولا سيظهر منكم ويدعو إلى الحق وكانوا يرغبونهم في اتباعه فلما بعث الله محمدا حسدوه وكفروا به، فبكتهم الله تعالى بسبب أنهم كانوا يأمرون باتباعه قبل ظهوره فلما ظهر تركوه وأعرضوا عن دينه، وهذا اختيار أبى مسلم، وخامسها: وهو قول الزجاج أنهم كانوا يأمرون الناس ببذل الصدقة، وكانوا يشحون بها لان الله تعالى وصفهم بقساوة القلوب وأكل الربا والسحت، وسادسها: لعل المنافقين من اليهود كانوا يأمرون باتباع محمد صلى الله عليه وسلم في الظاهر، ثم إنهم كانوا في قلوبهم منكرين له فوبخهم الله تعالى عليه، وسابعها. أن اليهود صلى الله عليه وسلم، ثم إنهم ما آمنوا به، أما قوله (وتنسون أنفسكم) فالنسيان عبارة عن السهو الحادث بعد حصول العلم والناسي غير مكلف ومن لا يكون مكلفا لا يجوز أن يذمه الله تعالى على ما صدر منه فالمراد بقوله (وتنسون أنفسكم) أنكم تغفلون عن حق أنفسكم وتعدلون عما لها فيه من النفع، أما قوله (وأنتم تتلون أنفسكم) فمعناه تقرأون التوراة وتدرسونها وتعلمون بما فيها من الحث على أفعال البر والاعراض عن أفعال الاثم. وأما قوله (أفلا تعقلون) فهو تعجب للعقلاء من أفعالهم ونظيره قوله تعالى (أف لكم ولما تعبدون من دون تعقلون) وسبب التعجب وجوه، الأول: أن المقصود من الامر بالمعروف والنهى عن المنكر إرشاد الغير إلى تحصيل المصلحة وتحذيره عما يوقعه في المفسدة، والاحسان إلى النفس أولى من الاحسان إلى الغير وذلك معلوم بشواهد العقل والنقل فمن وعظ ولم يتعظ فكأنه أتى بفعل متناقض لا يقبله العقل فلهذا قال (أفلا تعقلون) الثاني: أن من وعظ الناس وأظهر علمه للخلق ثم لم يتعظ صار ذلك الوعظ سببا لرغبة الناس في المعصية لان الناس يقولون إنه مع هذا العلم لولا أنه مطلع على أنه لا أصل لهذه التخويفات وإلا لما أقدم على المعصية فيصير هذا داعيا لهم إلى التهاون بالدين والجراءة على المعصية فإذا كان غرض الواعظ الزجر عن المعصية ثم أتى بفعل يوجب الجراءة على المعصية فكأنه جمع بين المتناقضين، وذلك لا يليق بأفعال العقلاء، فلهذا قال