الغضب يولد الحقد والحقد يقتضي التشفي والانتقام، فإن عجز المبغض عن التشفي بنفسه أحب أن يتشفى منه الزمان، فمهما أصاب عدوه آفة وبلاء فرح، ومهما أصابته نعمة ساءته، وذلك لأنه ضد مراده، فالحسد من لوازم البغض والعداوة ولا يفارقهما، وأقصى الإمكان في هذا الباب أن لا يظهر تلك العداوة من نفسه وأن يكره تلك الحالة من نفسه، فأما أن يبغض إنسانا ثم تستوي عنده مسرته ومساءته فهذا غير ممكن، وهذا النوع من الحسد هو الذي وصف الله الكفار به، إذ قال: * (وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور، إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها) * (آل عمران: 119، 120) وكذا قال: * (ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم) * (آل عمران: 118). واعلم أن الحسد ربما أفضى إلى التنازع والتقاتل.
السبب الثاني: التعزز، فإن واحدا من أمثاله إذا نال منصبا عاليا ترفع عليه وهو لا يمكنه تحمل ذلك، فيريد زوال ذلك المنصب عنه وليس من غرضه أن يتكبر، بل غرضه أن يدفع كبره فإنه قد يرضى بمساواته ولكنه لا يرضى بترفعه عليه.
السبب الثالث: أن يكون في طبيعته أن يستخدم غيره فيريد زوال النعمة من ذلك الغير ليقدر على ذلك الغرض، ومن هذا الباب كان حسد أكثر الكفار للرسول عليه الصلاة والسلام إذ قالوا: كيف يتقدم علينا غلام يتيم وكيف نطأطئ له رؤوسنا؟ فقالوا: (لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) وقال تعالى يصف قول قريش: * (أهؤلاء من الله عليهم من بيننا) * (الأنعام: 53) كالاستحقار بهم والأنفة منهم.
السبب الرابع: التعجب كما أخبر الله عن الأمم الماضية إذ قالوا: * (ما أنتم إلا بشرا مثلنا) * (إبراهيم: 10)، وقالوا: * (أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون) * (المؤمنون: 47)، * (ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون) * (المؤمنون: 34) وقالوا متعجبين: * (أبعث الله بشرا رسولا) * (الإسراء: 94) وقالوا: * (لولا نزل علينا الملائكة) * (الفرقان: 21) وقال: * (أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم) * (الأعراف: 63، 69).
السبب الخامس: الخوف من فوت المقاصد وذلك يختص بالمتزاحمين على مقصود واحد، فإن كل واحد منهما يحسد صاحبه في كل نعمة تكون عونا له في الانفراد بمقصوده، ومن هذا الباب تحاسد الضرات في التزاحم على مقاصد الزوجية، وتحاسد الأخوة في التزاحم على نيل المنزلة في قلوب الأبوين للتوصل إلى مقاصد المال والكرامة، وكذلك تحاسد الواعظين المتزاحمين على أهل بلدة واحدة، إذ كان غرضهما نيل المال والقبول عندهم.
السبب السادس: حب الرياسة وطلب الجاه نفسه من غير توسل به إلى مقصوده، وذلك كالرجل الذي يريد أن يكون عديم النظير في فن من الفنون، فإنه لو سمع بنظير له في أقصى العالم ساءه ذلك وأحب موته وزوال النعمة التي بها يشاركه في المنزلة من شجاعة أو علم أو زهد أو ثروة ويفرح بسبب تفرده.