مصيبات الدنيا مثوبات الأخرى لا يغتم بما أصابه ولا يحزن بما نابه ومتعنا من التمتيع أي اجعلنا متمتعين ومنتفعين بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا أي بأن نستعملها في طاعتك قال ابن الملك التمتع بالسمع والبصر إبقاؤهما صحيحين إلى الموت ما أحييتنا أي مدة حياتنا وإنما خص السمع والبصر بالتمتيع من الحواس لأن الدلائل الموصلة إلى معرفة الله وتوحيده إنما تحصل من طريقهما لأن البراهين إنما تكون مأخوذة من الآيات وذلك بطريق السمع أو من الآيات المنصوبة في الأفاق والأنفس فذلك بطريق البصر فسأل التمتيع بهما حذرا من الانخراط في سلك الذين ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولما حصلت المعرفة بالأولين يترتب عليها العبادة فسأل القوة ليتمكن بها من عبادة ربه قاله الطيبي والمراد بالقوة قوة سائر الأعضاء والحواس أو جميعها فيكون تعميما بعد تخصيص واجعله أي المذكور من الأسماع والأبصار والقوة الوارث أي الباقي منا أي بأن يبقى إلى الموت قال في اللمعات الضمير في قوله اجعله للمصدر الذي هو الجعل أي اجعل الجعل وعلى هذا الوارث مفعول أول ومنا مفعول ثان أي اجعل الوارث من نسلنا لا كلالة خارجة منا والكلالة قرابة ليست من جهة الولادة وهذا الوجه قد ذكره بعض النحاة في قولهم إن المفعول المطلق قد يضمر ولكن لا يتبادر إلى الفهم من اللفظ ولا ينساق الذهن إليه كما لا يخفى والثاني أن الضمير فيه للتمتع الذي هو مدلول متعنا والمعنى اجعل تمتعنا بها باقيا مأثورا فيمن بعدنا لأن وارث المرء لا يكون إلا الذي يبقى بعده فالمفعول الثاني الوارث وهو المعنى يشبه سؤال خليل الرحمن على نبينا عليه الصلاة والسلام واجعل لي لسان صدق في الآخرين وقيل معنى وراثته دوامه إلى يوم الحاجة إليه يعني يوم القيامة والأول أوجه لأن الوارث إنما يكون باقيا في الدنيا والثالث أن الضمير للأسماع والأبصار والقوى بتأويل المذكور ومثل هذا شائع في العبارات لا كثير تكلف فيها وإنما التكلف فيما قيل إن الضمير راجع إلى أحد المذكورات ويدل على ذلك على وجود الحكم في الباقي لأن كل شيئين تقاربا في معنييهما فإن الدلالة على أحدهما دلالة على الآخر والمعنى بوراثتها لزومها إلى موته لأن الوارث من يلزم إلى موته انتهى (واجعل ثأرنا) بالهمز بعد المثلثة المفتوحة أي إدراك ثأرنا على من ظلمنا أي مقصورا عليه ولا تجعلنا ممن تعدى في طلب ثأره فأخذ به غير الجاني كما كان معهودا في الجاهلية فنرجع ظالمين بعد أن كنا مظلومين وأصل الثأر الحقد والغضب يقال ثأرت القتيل وبالقتيل أي قتلت قاتله ولا تجعل مصيبتنا في ديننا أي لا تصبنا بما ينقص ديننا من اعتقاد السوء وأكل الحرام والفترة في العبادة وغيرها ولا تجعل الدنيا أكبر همنا أي لا تجعل طلب المال والجاه أكبر قصدنا أو حزننا بل اجعل أكبر
(٣٣٤)