وقع النزاع بينهما في قتيل لم يظهر قاتله فيستدين ما يسكن به الفتنة وما دون النفس من الأطراف وغيرها. وإتلاف المال في ذلك كالنفس كما شمل ذلك عبارة المصنف: (أعطي) إن كان الدين باقيا (مع الغنى) بالعقار قطعا وبالعرض على المذهب وبالنقد على الأصح (وقيل: إن كان غنيا بنقد فلا) يعطى حينئذ، لأن إخراجه في الغرم ليس فيه مشقة غيره.
وأجاب الأول بعموم الآية، ولأنه لو شرط الفقر فيه لقلت الرغبة في هذه المكرمة. أما إذا لم يكن الدين باقيا كأن أداه من ماله فإنه لا يعطى. الضرب الثالث الذي أسقطه المصنف: من لزمه دين بطريق الضمان عن معين لا في تسكين فتنة، فيعطى إن أعسر مع الأصل، وإن لم يكن متبرعا بالضمان أو أعسر وحده وكان متبرعا بالضمان لأنه إذا غرم لا يرجع عليه، بخلاف ما إذا ضمن بالاذن، وصرفه إلى الأصيل المعسر أولى لأن الضامن فرعه، وإن أعسر الأصيل وحده أعطي دون الضامن، بخلاف الأصيل أو الضامن الموسر إذ لا حق له في الزكاة. وإذا أعطي الضامن وقضى به الدين لم يرجع على الأصيل وإن ضمن بإذنه، وإنما يرجع إذا غرم من عنده بشرطه، وإن كانا موسرين لم يعط واحد منهما. ولو استدان لمصلحة عامة كقرى ضيف وعمارة مسجد وبناء قنطرة وفك أسير فهو كمن استدان لمصلحة نفسه كما قاله السرخسي، وجرى عليه أبو عبد الله الحجازي في مختصر الروضة، وجزم به في الأنوار، وقال الأذرعي: هو الذي يقتضيه كلام الأكثرين، واعتمده شيخي، وقيل: يعطى عند العجز عن النقد لا عن غيره كالعقار، وجرى عليه الروياني والماوردي وجزم به ابن المقري في روضه، وحكى في الروضة المقالتين من غير الترجيح.
تنبيه: اشتراط المصنف حلول الدين في الضرب الأول يقتضي أنه لا يشترط في الضرب الثاني، ووجه بأنه كما يجوز الاعطاء فيه مع الغني يجوز مع التأجيل، وظاهر كلامهم أنه لا فرق، إذ لا طلب للمدين الآن، والتسليم لما يستحقه المكاتب أو الغارم إلى السيد أو الغريم بإذن المكاتب أو الغارم أحوط وأفضل إلا أن يكون ما يستحقه أقل مما عليه وأراد أن يتجر فيه فلا يستحب تسليمه إلى من ذكر. وتسليمه إليه بغير إذن المكاتب أو الغارم لا يقع زكاة لأنهما المستحقان، ولكن يسقط عنهما بقدر المصروف لأن من أدي عنه دينه بغير إذنه تبرأ ذمته، ولو أعتق المكاتب أو أبرئ الغارم أو استغنيا وبقي مال الزكاة في أيديهما استرد منهما بزيادته المتصلة، ولو أتلفاه قبل الاعتاق والبراءة لم يغرما لتلفه على ملكهما مع حصول المقصود أو بعده غرماه لعدم حصول المقصود به. وللمكاتب والغارم أن يتجرا في المأخوذ ليربحا فيه. ولو أراد أحدهما أن ينفق ما أخذه ويؤدي من كسبه منع المكاتب لا الغارم. ولو أدى الغارم الدين من قرض فلم يسترد منه ما أخذه حتى لزمه دين صار به غارما استرد منه لأنه صار كالمستسلف له قبل غرمه في أحد وجهين رجحه بعض المتأخرين، وقيل: لا، لأنه يجوز دفعه إليه الآن. ولو بان القابض للزكاة من المالك غير مستحق لها كغني لم يحزه، وإن أعطاها له ببينة شهدت له بالوصف الذي أعطاه به، لانتفاء شرطه. ثم شرع في الصنف السابع، فقال:
(وسبيل الله تعالى غزاة) ذكور لا فئ لهم، أي لا اسم لهم في ديوان المرتزقة بل يتطوعون بالغزو حيث نشطوا له وهم مشتغلون بالحرف والصنائع. (فيعطون) من الزكاة (مع الغنى) لعموم الآية وإعانة لهم على الغزو، بخلاف من لهم الفئ، وهم المرتزقة الثابت أسماؤهم في الديوان، فلا يعطون من الزكاة ولو عدم الفئ في الأظهر بل يجب على أغنياء المسلمين إعانتهم. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: كان أهل الفئ على عهد رسول الله (ص) بمعزل عن أهل الصدقات، وأهل الصدقات بمعزل عن أهل الفئ ولأنهم أخذوا بدل جهادهم من الفئ، فلو أخذوا من الزكاة أخذوا بدلين عن بدل واحد، وذلك ممتنع، ولكل ضرب منهما أن ينتفل إلى الضرب الآخر. وإنما فسر سبيل الله بالغزاة لأن استعماله في الجهاد أغلب عرفا وشرعا بدليل قوله تعالى في غير موضع: * (يقاتلون في سبيل الله) * فحمل الاطلاق عليه وإن كان سبيل الله بالوضع هو الطريق الموصلة إليه وهو أعم. ولعل اختصاصه بالجهاد، لأنه طريق إلى الشهادة الموصلة إلى الله تعالى فهو أحق بإطلاق سبيل الله عليه. ثم شرع في الصنف الثامن فقال: