الثالثة: في اعتبار تلك المزايا وعدمه، ومسألتنا هذه إنما هي المرحلة الثالثة، فلنقدم الكلام في المرحلة الأولى، وقبل الشروع لا بد من تمهيد مقدمة:
وهي أن محل النزاع في تعارض الأحوال وتكافئها أعم من أن يكون التعارض بين الحالين ذاتيا - بمعنى كونه ناشئا عن مقتضى ظاهري اللفظين، كما في أسد يرمي، فإن التعارض بين مجازية الأسد في الشجاع وبين مجازية يرمي في رمي التراب، وبقاء الأسد على حقيقته ناشئ عن مقتضى ظهور اللفظين، فإن ظاهرهما متنافيان بالذات، لا يجوز الجمع بينهما عقلا - أو عرضيا مسببا عن العلم الإجمالي بعدم إرادة ظاهر أحد الخطابين، فإن الأمر حينئذ دائر بين التصرف في ظاهر ذلك الخطاب، وجعله هو المعلوم بالإجمال، وبين التصرف في ظاهر هذا الخطاب، بسبب العلم الإجمالي بحيث لولاه لا يمكن الجمع بينهما.
وهذا كما في قوله تعالى: (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء وبعولتهن أحق بردهن) () إذ لا ريب أنه لا تنافي بالذات بين بقاء العام الذي هو المطلقات على عمومه، وبين بقاء الضمير على ظاهره، وهو اتحاده لما أريد من المرجع بأن يكون المراد بالمطلقات أعم من الرجعية والمطلقة بالطلاق البائن، كما هو ظاهره، ويكون المراد بالضمير في بعولتهن مطلق المطلقات - كما ذكر - متحد الضمير مع ما أريد من المرجع، فلا يلزم خلاف أصل في شيء منهما، لكن لما قام الإجماع على اختصاص جواز الرجوع بالرجعيات، فلا يمكن حينئذ أن يراد بالضمير مطلق المطلقات، بل لا بد من أن يراد به الرجعيات خاصة، فبذلك يدور الأمر بين الاستخدام وبين التخصيص في العام، إذ لو أريد من العام مطلق المطلقات، يلزم الاستخدام في الضمير، لعدم مطابقته حينئذ لما أريد من المرجع، وإن أريد اتحاده لما أريد منه، وعدم الاستخدام يلزم التخصيص في العام.
فقد عرفت أن العلم الإجمالي بمخالفة أحد الظاهرين، أحدهما العموم، وثانيهما ظهور الضمير في مطابقته لما أريد من مرجعه أوجب هذا التعارض، وإلا فلا تعارض بينهما بالذات كما عرفت.
هذا، ثم إن النزاع في المقام فيما إذا لم يكن في بعض تلك الأحوال مسببا عن الشك في الآخر، فالأصل في الشك السببي مقدم على الشك في المسبب، كما تحقق ذلك في