أما من جانب المتكلم؛ فلأنه يرتب المعاني في ذهنه أولا، ثم ينتقل منها إلى الألفاظ، فيعبر عن مقصوده بالألفاظ.
وأما من جانب المخاطب: فهو بعكس المتكلم؛ فهو يتوجه أولا إلى الألفاظ، ثم إلى المعاني. فإذا كان للفظ واحد معنيان فالانتقال من كل من المعنيين إلى اللفظ نظير الانتقال من لازمين إلى ملزوم واحد، كالحرارة والضوء بالنسبة إلى الشمس؛ فكما أنه تارة ينتقل من ملاحظة كل من اللازمين مع الغفلة عن الآخر إلى الملزوم، فكذلك فيما نحن فيه قد ينتقل المتكلم من ملاحظة معنى إلى اللفظ كما ربما ينتقل من ملاحظة المعنيين إلى اللفظ. هذا حال الانتقال من المعنى إلى اللفظ.
وكذا الانتقال من اللفظ إلى المعنى، نظير الانتقال من الملزوم إلى اللازم؛ فكما أنه ينتقل تارة من ملزوم إلى لازم واحد، وأخرى منه إلى لازميه، فكذلك ينتقل المخاطب من اللفظ تارة إلى معنى واحد، وأخرى ينتقل منه إلى معنييه دفعة واحدة.
فبعدما أحطت خبرا بما ذكرنا: ظهر لك الخلل في التقريبين الأوليين، بل يظهر لك الخلل في التقريب الثالث أيضا؛ لأن الاستعمال - كما أشرنا - هو إلغاء اللفظ وإرادة المعنى، لا إفناؤه فيه.
وبعبارة أخرى: الاستعمال طلب عمل اللفظ لإفهام المعنى، ومن الممكن ذكر لفظ وإرادة معنيين، أو إفهام معنيين.
وأما التقريب الرابع: فهو أشبه بالخطابة من البرهان؛ لأنه إن أريد بذلك: أن اللفظ وجود تنزيلي للمعنى غير كون اللفظ موضوعا للمعنى فلا نسلمه؛ بداهة أنه أنى للفظ " زيد " وأن يكون وجودا تنزيليا للمسمى بزيد؟! وبينهما من المباينة ما لا يخفى.