ومعنى كونه سببا لقيام الناس هو أن العرب كان يقتل بعضهم بعضا في سائر الأشهر، ويغير بعضهم على بعض، فإذا دخل الشهر الحرام زال الخوف وقدروا على الأسفار والتجارات وصاروا آمنين على أنفسهم وأموالهم وكانوا يحصلون في الشهر الحرام من الأقوات ما كان يكفيهم طول السنة، فلولا حرمة الشهر الحرام لهلكوا وتفانوا من الجوع والشدة فكان الشهر الحرام سببا لقوام معيشتهم في الدنيا أيضا. فهو سبب لاكتساب الثواب العظيم بسبب إقامة مناسك الحج. واعلم أنه تعالى أراد بالشهر الحرام الأشهر الحرم الأربعة إلا أنه عبر عنها بلفظ الواحد لأنه ذهب به مذهب الجنس. وأما الثالث: فهو الهدي وهو إنما كان سببا لقيام الناس، لأن الهدي ما يهدى إلى البيت ويذبح هناك ويفرق لحمه على الفقراء فيكون ذلك نسكا للمهدي وقواما لمعيشة الفقراء. وأما الرابع: فهو القلائد، والوجه في كونها قياما للناس أن من قصد البيت في الشهر الحرام لم يتعرض له أحد، ومن قصده من غير الشهر الحرام ومعه هدي، وقد قلده وقلد نفسه من لحاء شجرة الحرم لم يتعرض له أحد، حتى أن الواحد من العرب يلقى الهدي مقلدا، ويموت من الجوع فلا يتعرض له البتة، ولم يتعرض لها صاحبها أيضا، وكل ذلك إنما كان لأن الله تعالى أوقع في قلوبهم تعظيم البيت الحرام، فكل من قصده أو تقرب إليه صار آمنا من جميع الآفات والمخافات، فلما ذكر الله تعالى أنه جعل الكعبة البيت الحرام قياما للناسي ذكر بعده هذه الثلاثة، وهي الشهر الحرام والهدي والقلائد، لأن هذه الثلاثة إنما صارت سببا لقوام المعيشة لانتسابها إلى البيت الحرام، فكان ذلك دليلا على عظمة هذا البيت وغاية شرفه. ثم قال تعالى: * (ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم) *. والمعنى: أنه تعالى لما علم في الأزل أن مقتضى طباع العرب الحرص الشديد على القتل والغارة وعلم أنه لو دامت بهم هذه الحالة لعجزوا عن تحصيل ما يحتاجون إليه من منافع المعيشة، ولأدى ذلك إلى فنائهم وانقطاعهم بالكلية، دبر في ذلك تدبيرا لطيفا، وهو يأنه ألقى في قلوبهم اعتقادا قويا في تعظيم البيت الحرام وتعظيم مناسكه، فصار ذلك سببا لحصول الأمن في البلد الحرام، وفي الشهر الحرام، فلما حصل الأمن في هذا المكان وفي هذا الزمان، قدروا على تحصيل ما يحتاجون إليه في هذا الزمان، وفي هذا المكان، فاستقامت مصالح معاشهم، ومن المعلوم أن مثل هذا التدبير لا يمكن إلا إذا كان تعالى في الأزل عالما بجميع المعلومات من الكليات والجزئيات حتى يعلم أن الشر غالب على طباعهم، وأن ذلك يفضي بهم إلى الفناء وانقطاع النسل، وأنه لا يمكن دفع ذلك إلا
(١٠١)