الرب تعالى جاء في طور سيناء وطلع لنا من ساعير وظهر من جبال فاران وصف عن يمينه عنوان القديسين فمنحهم العز وحببهم إلى الشعوب ودعا لجميع قديسيه بالبركة، وجه الاستدلال: أن جبل فاران هو بالحجاز لأن في التوراة أن إسماعيل تعلم الرمي في برية فاران، ومعلوم أنه إنما سكن بمكة. إذا ثبت هذا فنقول: إن قوله: " فمنحهم العز " لا يجوز أن يكون المراد إسماعيل عليه السلام لأنه لم يحصل عقيب سكنى إسماعيل عليه السلام هناك عز ولا اجتمع هناك ربوات القديسين فوجب حمله على محمد عليه السلام. قالت اليهود: المراد أن النار لما ظهرت من طور سيناء ظهرت من ساعير نار أيضا ومن جبل فاران أيضا فانتشرت في هذه المواضع قلنا هذا لا يصح لأن الله تعالى لو خلق نارا في موضع فإنه لا يقال جاء الله من ذلك إذا تابع ذلك الواقعة وحي نزل في ذلك الموضع أو عقوبة وما أشبه ذلك. وعندكم أنه لم يتبع ظهور النار وحي ولا كلام إلا من طور سيناء فما كان ينبغي إلا أن يقال ظهر من ساعير ومن جبل فاران فلا يجوز وروده كما لا يقال جاء الله من الغمام إذا ظهر في الغمام احتراق ونيران كما يتفق ذلك في أيام الربيع، وأيضا ففي كتاب حقوق بيان ما قلنا وهو جاء الله من طور سيناء والقدس من جبل فاران، وانكشفت السماء من بهاء محمد وامتلأت الأرض من حمده. يكون شعاع منظره مثل النور يحفظ بلده بعزه تسير المنايا أمامه ويصحب سباع الطير أجناده قام فمسح الأرض وتأمل الأمم وبحث عنها فتضعضعت الجبال القديمة واتضعت الروابي والدهرية، وتزعزعت ستور أهل مدين وركبت الخيول، وعلوت مراكب الانقياد والغوث وستنزع في قسيك إغراقا ونزعا وترتوي السهام بأمرك يا محمد ارتواء وتخور الأرض بالأنهار، ولقد رأتك الجبال فارتاعت وانحرف عنك شؤبوب السيل ونفرت المهاري نفيرا ورعبا ورفعت أيديها وجلا وفرقا وتوقفت الشمس والقمر عن مجراهما وسارت العساكر في برق سهامك ولمعان بيانك تدوخ الأرض غضبا وتدوس الأمم زجرا لأنك ظهرت بخلاص أمتك وإنقاذ تراب آبائك ". هكذا نقل عن ابن رزين الطبري. أما النصارى فقال أبو الحسين رحمه الله في كتاب الغرر قد رأيت في نقولهم: " وظهر من جبال فاران لقد تقطعت السماء من بهاء محمد المحمود وترتوي السهام بأمرك المحمود لأنك ظهرت بخلاص أمتك وإنقاذ مسيحك "، فظهر بما ذكرنا أن قوله تعالى في التوراة: " ظهر الرب من جبال فاران " ليس معناه ظهور النار منه بل معناه ظهور شخص موصوف بهذه الصفات وما ذاك إلا رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم. فإن قالوا المراد مجيء الله تعالى ولهذا قال في آخر الكلام: " وإنقاذ مسيحك " قلنا لا يجوز وصف الله تعالى بأنه يركب الخيول وبأن شعاع منظره مثل النور وبأنه جاز المشاعر القديمة، أما قوله: (وإنقاذ مسيحك) فإن محمدا عليه السلام أنقذ المسيح من كذب اليهود والنصارى. والرابع: ما جاء في كتاب أشعياء في الفصل الثاني والعشرين منه: " قومي فأزهري مصباحك، يريد مكة، فقد دنا وقتك وكرامة الله تعالى طالعة عليك فقد تجلل الأرض الظلام وغطى على الأمم الضباب والرب يشرق عليك إشراقا ويظهر كرامته
(٣٧)