ما قال تعالى: * (فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه) * وأيضا فبتقدير أن يقال: إنهما علما هذا النوع لكن تعليم هذا النوع إنما يكون كفرا إذا قصد المعلم أن يعتقد حقيقته وكونه صوابا، فأما أن يعلمه ليحترز عنه فهذا التعليم لا يكون كفرا، وتعليم الملائكة كان لأجل أن يصير المكلف محترزا عنه على ما قال تعالى حكاية عنهما: * (وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر) * وأما الشياطين الذين علموا الناس السحر فكان مقصودهم اعتقاد حقية هذه الأشياء فظهر الفرق.
المسألة الثامنة: قرأ نافع وابن كثير وعاصم وأبو عمرو بتشديد " لكن " و " الشياطين " بالنصب على أنه اسم " لكن " والباقون " لكن " بالتخفيف و " الشياطين " بالرفع والمعنى واحد، وكذلك في الأنفال: * (ولكن الله رمى) *. * (ولكن الله قتلهم) * (الأنفال: 17) والاختيار أنه إذا كان بالواو كان التشديد أحسن، وإذا كان بغير الواو فالتخفيف أحسن، والوجه فيه أن " لكن " بالتخفيف يكون عطفا فلا يحتاج إلى الواو لاتصال الكلام، والمشددة لا تكون عطفا لأنها تعمل عمل " إن ".
أما قوله تعالى: * (وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت) * ففيه مسائل: المسألة الأولى: " ما " في قوله: * (وما أنزل) * فيه وجهان. الأول: أنه بمعنى الذي ثم هؤلاء اختلفوا فيه على ثلاثة أقوال. الأول: أنه عطف على (السحر) أي يعلمون الناس السحر ويعلمونهم ما أنزل على الملكين أيضا. وثانيها: أنه عطف على قوله: * (ما تتلوا الشياطين) * أي واتبعوا الذي تلته الشياطين، ومنه ما تأثيره في التفريق بين المرء وزوجه وهو الذي أنزل على الملكين فكأنه تعالى أخبر عن اليهود أنهم اتبعوا كلا الأمرين ولم يقتصروا على أحدهما، وثالثها: أن موضعه جر عطفا على (ملك سليمان) وتقديره ما تتلوا الشياطين افتراء على ملك سليمان وعلى ما أنزل على الملكين وهو اختيار أبي مسلم رحمه الله، وأنكر في الملكين أن يكون السحر نازلا عليهما واحتج عليه بوجوه. الأول: أن السحر لو كان نازلا عليهما لكان منزله هو الله تعالى، وذلك غير جائز لأن السحر كفر وعبث ولا يليق بالله إنزال ذلك، الثاني: أن قوله: * (ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر) * يدل على أن تعليم السحر كفر، فلو ثبت في الملائكة أنهم يعلمون السحر لزمهم الكفر، وذلك باطل. الثالث: كما لا يجوز في الأنبياء أن يبعثوا لتعليم السحر فكذلك في الملائكة بطريق الأولى، الرابع: أن السحر لا ينضاف إلا إلى الكفرة والفسقة والشياطين المردة، وكيف يضاف إلى الله ما ينهى عنه ويتوعد عليه بالعقاب؟ وهل السحر إلا الباطل المموه وقد جرت عادة الله تعالى بإبطاله كما قال في قصة موسى عليه السلام: * (ما جئتم به السحر إن الله سيبطله) * (يونس: 81) ثم إنه رحمه الله سلك في تفسير الآية نهجا آخر يخالف قول أكثر المفسرين، فقال: كما أن الشياطين نسبوا السحر إلى ملك سليمان مع أن ملك سليمان كان مبرأ