المستفاد من الشرع وراء هذين القسمين فهم يؤتيه الله للعبد وهو شرعي أيضا. قال العراقي: ومن عرف التفسير دون أحكامه لا يصرف له شئ، لأنه كناقل الحديث: (و) من علم (حديث) والمراد به هنا معرفة معانيه ورجاله وطرقه وصحيحه وسقيمه وعليله وما يحتاج إليه. وهو من أجل العلوم بعد القرآن، فالعالم به من أجل العلماء، وليس من علمائه من اقتصر على السماع المجرد. (و) من علم (فقه) المراد به هنا معرفة الأحكام الشرعية نصا واستنباطا، أي عرف من كل نوع منها شيئا، قاله ابن الرفعة. والمراد من كل باب من أبواب الفقه دون من عرف طرفا منه كمن عرف أحكام الحيض أو الفرائض وإن سماها الشارع نصف العلم. وخرج بالاستنباط الظاهرية كما قاله ابن سريج وأفتى به القاضي الحسين وغيره. قال الماوردي: لو أوصى لاعلم الناس صرف للفقهاء لتعلق الفقه بأكثر العلوم. وقال شارح التعجيز:
أولى الناس بالفقه في الدين نور يقذف هيبته في القلب، أي من قذف في قلبه ذلك. وهذا القدر قد يحصل لبعض أهل العنايات موهبة من الله تعالى، وهو المقصود الأعظم بخلاف ما يفهمه أكثر أهل الزمان. فذلك صناعة. ووصف الفقهاء والمتفقهة والصوفية سبق بيانه في الوقف. سئل الحسن البصري عن مسألة فأجاب، فقيل: إن فقهاءنا لا يقولون ذلك، فقال: وهل رأيتم فقيها قط؟ الفقيه هو القائم ليله الصائم نهاره الزاهد في الدنيا الذي لا يداري ولا يماري، ينشر حكمة الله، فإن قبلت منه حمد الله تعالى، وفقه عن الله أمره ونهيه وعلم ما يحبه وما يكرهه، فذاك هو العالم الذي قيل فيه: من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين فإذا لم يكن بهذه الصفة فهو من المغرورين. ولو أوصى لمفسر ومحدث وفقيه فاجتمعت في شخص أعطي بأحدها كنظيره الآتي في قسم الصدقات. واحترز المصنف بعلوم الشرع عن علوم العقل كالطب والحساب والمنطق، وممن صرح بعدم دخول المنطق الطاوسي في التعليقة، لكن نقل عن الغزالي أنه جعله من علم الكلام فليكن على الخلاف الآتي.
تنبيه: قضية كلامه الحصر في هذه الثلاثة، وليس مرادا، بل العلم بأصول الفقه مثلها كما قاله الصيمري وصاحب البيان لابتناء الفقه عليه، وعد الغزالي في مقدمة المستصفى من العلم الديني علم الباطن يعني علم القلب وتطهيره عن الأخلاق الذميمة. واختلف في الراسخ في العلم فقيل: هو من برت يمينه، وصدق لسانه، واستقام قلبه. وقيل: هو من جمع أربع خصال: التقوى فيما بينه وبين الله، والتواضع فيما بينه وبين الناس، والزهد فيما بينه وبين الدنيا، والمجاهدة فيما بينه وبين نفسه. والأصح أنه العالم بتصاريف الكلام وموارد الأحكام ومواقع المواعظ، لأن الرسوخ الثبوت في الشئ. وعطف على أصحاب المرفوع قوله: (لا مقرئ وأديب ومعبر وطبيب) ومنجم وحاسب ومهندس، فليسوا من علماء الشرع، لأن أهل العرف لا يعدونهم منهم، وكذا العالم باللغة والصرف والمعاني والبيان والبديع والعروض والقوافي والموسيقى ونحوها، قاله في المطالب تبعا لابن يونس. والمراد بالمقرئ التالي، أما العالم بالروايات ورجالها فكالعالم بطرق الحديث، واختاره السبكي بعد أن رده من حيث المذهب بأن علم القراءات يتعلق بالألفاظ دون المعاني، فالعارف به لا يدخل في اسم العلماء، وبأن التالي قارئ لا مقرئ. قال الماوردي: والمراد بالأدباء النحاة واللغويون. وقد عد الزمخشري الأدب اثني عشر علما. والمراد بالمعبر مفسر المنام، والأفصح عابر لأنه يقال عبرت بالتخفيف كما قال تعالى: * (للرؤيا تعبرون) *، ومنهم من أنكر التشديد، وفي الحديث: الرؤيا لأول عابر. والطبيب من يحسن علم الطب. (وكذا متكلم) ليس منهم (عند الأكثرين) لما ذكر، ونقله العبادي في زيادته عن النص.
وقيل: يدخل، وبه قال المتولي ومال إليه الرافعي. واقتضى كلامه أن الدليل يقتضي التسوية بينه وبين المحدث والمقرئ، فإما أن يتساووا في الدخول كلهم أو في الخروج. ولأجل هذا التوقف عدل المصنف عن الأصح إلى قوله عند الأكثرين، وقال السبكي: إن أريد بعلم الكلام العلم بالله تعالى وصفاته وما يستحيل عليه ليرد على المبتدعة وليميز بين الاعتقاد الصحيح والفاسد، فذاك من أجل العلوم الشرعية، والعالم به من أفضلهم، وقد جعلوه في كتاب السير من فروض الكفايات، وإن أريد به التوغل في شبهة والخوض فيه على طريق الفلسفة وتضييع الزمان فيه والزيادة على ذلك