ولما أمر تعالى بالإشهاد في السلم بقوله تعالى: وأشهدوا إذا تبايعتم، سنة واحتياطا أمر بالرهن احتياطا أيضا إذا لم يوجد كاتب ولا شهيد، وإنما أورد ذكر كون السفر فيه وشرط الكلام به: إما لأن تلك الحال التي نزلت الآية فيها كانت على تلك الصفة، وإما لأن فقدان البينة على الأغلب في حال السفر لا لأنه شرط في صحته.
فصل:
ثم قال تعالى: فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته، لبين سبحانه بهذا أن الإشهاد والكتابة في المداينة والرهن ليس بواجب على ما ذكرناه وإنما هو على جهة الاحتياط، معناه إن ائتمنه فلم يقبض منه رهنا فليؤد الذي اؤتمن أمانته، يعني على الذي عليه الدين بأن يؤدي إليه حقه في محله ويؤدي الأمانة كما وثق به واعتقد فيه أي ليقض فيه الذي أمنه عليه. والائتمان افتعال من الأمن، يقال: أمنه وائتمنه، " وليتق الله ربه " أن يظلمه أو يخونه وهو وثق به وائتمنه ولم يرتهن منه شيئا، وقرأ ابن عباس ومجاهد: ولم تجدوا كتبا، يعني ما تكتبون فيه من طرس وغيره.
وإذا ارتهن صاحب الدين وأشهد فقد أكد الاحتياط، ولا بأس أن يكون الرهن أكثر قيمة من المال الذي عليه أو أقل ثمنا منه أو مساويا له لأن عموم اللفظ يتناوله على الأحوال، وإنما قلنا إن الأحوط هو الإشهاد مع التمكن وإن استوثق من ماله رهنا لأنه إن اختلفا في مقدار المبلغ الذي الرهن لأجله كان على المرتهن البينة، فإن لم يكن معه بينة فعلى صاحب الرهن اليمين، وكذا إذا اختلفا في متاع فقال الذي عنده: إنه رهن، وقال صاحب المتاع:
إنه وديعة، كان على المدعي لكونه رهنا البينة بأنه رهن، وقد روي: أن القول قول المرتهن مع يمينه لأنه أمينه والبينة على الراهن ما لم يستغرق الرهن ثمنه.
ومن أدل الدليل على أن الإشهاد والارتهان يصح اجتماعهما قوله تعالى بعد هذا ولا تكتموا الشهادة، يعني بعد تحملها: ومن يكتمها فإنه آثم قلبه، إنما أضاف إلى القلب مجازا لأنه على الكتمان وإلا فالآثم هو الحي، وقالت عائشة: الصامت عن الحق كالناطق بالباطل وكاتم الشهادة كشاهد الزور، " والله بما تعملون عليم " يعني بما تسترونه وبما تكتمونه.