فالمزين في قلب ذلك الشيطان إن كان شيطانا أخر لزم التسلسل، وإن كان هو الله فقد زال السؤال، والثاني أن يقال: القلوب لا يقدر عليها إلا الله، والثالث: أنا قد دللنا على أن ترجيح الداعي لا يحصل إلا من الله تعالى وعند حصوله يجب الفعل.
أما قوله (وصدوا عن السبيل) فاعلم أنه قرأ عاصم وحمزة الكسائي (وصدوا) بضم الصاد وفى حم (وصدوا عن السبيل) على ما لم يسم فاعله بمعنى أن الكفار صدهم غيرهم، وعند أهل السنة أن الله صدهم. وللمعتزلة فيه وجهان: قيل الشطان، وقيل أنفسهم وبعضه لبعض كما يقال: فلان معجب وإن لم يكن ثمة غيره وهو قول أبى مسلم والباقون، وصدوا بفتح الصاد في السورتين يعنى أن الكفار صدوا عن سبيل الله، أي أعرضوا وقيل: صرفوا غيرهم، وهو لازم ومتعد، وحجة القراءة الأولى مشاكلتها لما قبلها من بناء الفعل للمفعول، وحجة القراءة الثانية قوله (الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله) ثم قال (ومن يضلل الله له له من هاد) اعلم أن أصحابنا تمسكوا بهذه الآية من وجوه: أولها قوله (بل زين الدين كفروا مكرهم) وقد بينا بالدليل أن ذلك المزين هو الله. وثانيها: قوله (وصدوا عن السبيل) بضم الصاد، وقد بينا أن ذلك الصاد هو الله. وثالثها: قوله (ومن يضلل الله فما له من هاد) وهو صريح في المقصود وتصريح بأن ذلك المزين وذلك الصاد ليس إلا الله. ورابعها:
قوله تعالى (لهم عذاب في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أشق) أخبر عنهم أنهم سيقعون في عقاب الآخرة وإخبار الله ممتنع التغير. وإذا امتنع وقوع التغير في هذا الخبر، امتنع صدور الايمان منه وكل هذه الوجوه قد لخصناها في هذا الكتاب مرارا، قال القاضي (من يضلل الله) أي عن ثواب الجنة لكفره وقوله (فما له من هاد) منبئ بذلك أن الثواب لا ينال إلا بالطاعة خاصة فمن زاغ عنها لم يجد إليها سبيلا، وقيل: المراد بذلك من حكم بأنه ضال وسماه ضالا، وقيل المراد من يضلله الله عن الايمان بأن يجده كذلك، ثم قال والوجه الأول أقوى.
واعلم أن الوجه الأول ضعيف جدا لان الكلام إنما وقع في شرح إيمانهم وكفرهم في الدنيا ولم يجر ذكرها بهم إلى الجنة البتة فصرف الكلام عن المذكور إلى غير المذكور بعيد، وأيضا فهب أنا نساعد على أن الامر كما ذكروه، إلا أن تعالى لما أخبر أنهم لا يدخلون الجنة فقد حصل المقصود لان خلاف معلوم الله ومخبره محال ممتنع الوقوع.
واعلم أنه تعالى لما أخبر عنهم بتلك الأمور المذكورة بين أنه جمع لهم بين عذاب الدنيا، وبين عذاب الآخرة الذي هو أشق، وأنه لا دافع لهم عنه لا في الدنيا ولا في الآخرة. أما عذاب الدنيا 8 - فخر - 19