أن الأرض كرة فكيف يمكن المكابرة فيه؟
فإن قالوا: وقوله: * (مد الأرض) * ينافي كونها كرة فكيف يمكن مدها؟
قلنا: لا نسلم أن الأرض جسم عظيم والكرة إذا كانت في غاية الكبر كان كل قطعة منها تشاهد كالسطح، والتفاوت الحاصل بينه وبين السطح لا يحصل إلا في علم الله ألا ترى أنه قال: * (والجبال أوتادا) * (النبأ: 7) فجعلها أوتادا مع أن العالم من الناس يستقرون عليها فكذلك ههنا. والثاني: أن هذه الآية إنما ذكرت ليستدل بها على وجود الصانع، والشرط فيه أن يكون ذلك أمرا مشاهدا معلوما حتى يصح الاستدلال به على وجود الصانع وكونها مجتمعة تحت البيت أمر غير مشاهد ولا محسوس فلا يمكن الاستدلال به على وجود الصانع، فثبت أن التأويل الحق هو ما ذكرناه.
والنوع الثاني: من الدلائل الاستدلال بأحوال الجبال وإليه الإشارة بقوله: * (وجعل فيها رواسي) * من فوقها ثابتة باقية في أحيازها غير منتقلة عن أماكنها يقال: رسا هذا الوتد وأرسيته والمراد ما ذكرنا.
واعلم أن الاستدلال بوجود الجبال على وجود الصانع القادر الحكيم من وجوه، الأول: أن طبيعة الأرض واحدة فحصول الجبل في بعض جوانبها دون البعض لا بد وأن يكون بتخليق القادر الحكيم. قالت الفلاسفة: هذه الجبال إنما تولدت لأن البحار كانت في هذا الجانب من العالم فكانت تتولد في البحر طينا لزجا. ثم يقوي تأثير الشمس فيها فينقلب حجرا كما يشاهد في كوز الفقاع ثم إن الماء كان يغور ويقل فيتحجر البقية، فلهذا السبب تولدت هذه الجبال قالوا: وإنما كانت البحار حاصلة في هذا الجانب من العالم لأن أوج الشمس وحضيضها متحركان، ففي الدهر الأقدم كان حضيض الشمس في جانب الشمال والشمس متى كانت في حضيضها كانت أقرب إلى الأرض فكان التسخين أقوى وشدة السخونة توجب انجذاب الرطوبات، فحين كان الحضيض في جانب الشمال كانت البحار في جانب الشمال، والآن لما انتقل الأوج إلى جانب الشمال والحضيض إلى جانب الجنوب انتقلت البحار إلى جانب الجنوب فبقيت هذه الجبال في جانب الشمال، هذا حاصل كلام القوم في هذا الباب وهو ضعيف من وجوه الأول: أن حصول الطين في البحر أمر عام ووقوع الشمس عليها أمر عام فلم وصل هذا الجبل في بعض الجوانب دون البعض. والثاني: وهو أنا نشاهد في بعض الجبال كأن تلك الأحجار موضوعة سافا فسافا فكأن البناء لبنات كثيرة موضوع بعضها على بعض ويبعد حصول مثل هذا التركيب من السبب الذي ذكروه. والثالث: أن أوج الشمس الآن قريب من أول السرطان فعلى هذا من الوقت الذي انتقل أوج الشمس إلى الجانب الشمالي مضى