فإن ذلك الكافر، والعاصي كان يأتي بذلك الكفر والمعصية، فلما كان الأمر كذلك، لا جرم أمهله هذه المدة.
الطريق الثاني: وهو طريق أبي هاشم أنه لا يبعد أن يقال: إنه تعالى علم أن أقواما يقعون بسبب وسوسته في الكفر والمعصية، إلا أن وسوسته ما كانت موجبة لذلك الكفر والمعصية، بل الكافر والعاصي بسبب اختياره اختار ذلك الكفر وتلك المعصية، أقصى ما في الباب أن يقال: الاحتراز عن القبائح حال عدم الوسوسة أسهل منه حال وجودها، إلا أن على هذا التقدير تصير وسوسته سببا لزيادة المشقة في أداء الطاعات، وذلك لا يمنع الحكيم من فعله، كما أن إنزال المشاق وإنزال المتشابهات صار سببا لمزيد الشبهات، ومع ذلك فلم يمتنع فعله فكذا ههنا، وهذان الطريقان هما بعينهما الجواب عن السؤال الثاني.
وأما السؤال الثالث: وهو أن إعلامه بأنه يموت على الكفر يحمله على الجرأة على المعاصي والإكثار منها، فجوابه أن هذا إنما يلزم إذا كان علم إبليس بموته على الكفر يحمله على الزيادة في المعاصي أما إذا علم الله تعالى من حاله أن ذلك لا يوجب التفاوت البتة، فالسؤال زائل، وهذا بعينه هو الجواب عن السؤال الرابع.
وأما السؤال الخامس: وهو أن إبليس صرح بأن الله تعالى أغواه وأضله عن الدين، فقد أجابوا عنه بأنه ليس المراد ذلك بل فيه وجوه أخرى: أحدها: المراد بما خيبتني من رحمتك لأخيبنهم بالدعاء إلى معصيتك. وثانيها؛ المراد كما أضللتني عن طريق الجنة أضلهم أنا أيضا عنه بالدعاء إلى المعصية. وثالثها: أن يكون المراد بالإغواء الأول الخيبة، وبالثاني الإضلال. ورابعها: أن المراد بإغواء الله تعالى إياه هو أنه أمره بالسجود لآدم فأفضى ذلك إلى غيه، يعني أنه حصل ذلك الغي عقيبه باختيار إبليس، فأما أن يقال: إن ذلك الأمر صار موجبا لذاته لحصول ذلك الغي، فمعلوم أنه ليس الأمر كذلك، هذا جملة كلام القوم في هذا الباب وكله ضعيف، أما قوله إنه لا يتفاوت الحال بسبب وسوسة إبليس فنقول: هذا باطل، ويدل عليه القرآن والبرهان، أما القرآن فقوله تعالى: * (فأزلهما الشيطان) * (البقرة: 36) فأضاف تلك الزلة إلى الشيطان، وقال: * (فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى) * (طه: 117) فأضاف الإخراج إليه، وقال موسى عليه السلام: * (هذا من عمل الشيطان) * ( القصص: 15) وكل ذلك يدل على أن لعمل الشيطان في تلك الأفعال أثرا، وأما البرهان فلأن بداية العقول شاهدة بأنه ليس حال من ابتلى بمجالسة شخص يرغبه أبدا في القبائح. وينفره عن الخيرات، مثل شخص كان حاله بالضد منه، والعلم بهذا التفاوت ضروري. وأما قوله إن وجوده يصير سببا لزيادة المشقة في الطاعة