وأما قوله تعالى: * (وما أنزل إليهم) * ففيه قولان: الأول: أنه القرآن، والثاني: أنه كتب سائر الأنبياء: مثل كتاب شعياء ومثل كتاب حيقوق، وكتاب دانيال، فإن هذه الكتب مملوءة من البشارة بمبعث محمد عليه الصلاة والسلام. وأما قوله تعالى: * (لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم) * فاعلم أن اليهود لما أصروا على تكذيب محمد عليه الصلاة والسلام أصابهم القحط والشدة، وبلغوا إلى حيث قالوا: * (يد الله مغلولة) * فالله تعالى بين أنهم لو تركوا ذلك الكفر لانقلب الأمر وحصل الخصب والسعة، وفي قوله * (لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم) * وجوه: الأول: أن المراد منه المبالغة في شرح السعة والخصب، لا أن هناك فوقا وتحتا، والمعنى لأكلوا أكلا متصلا كثيرا، وهو كما تقول: فلان في الخير من فرقه إلى قدمه، تريد تكاثف الخير وكثرته عنده. الثاني: أن الأكل من فوق نزول القطر، ومن تحت الأرجل حصول النبات، كما قال تعالى في سورة الأعراف * (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض) * (الأعراف: 96) الثالث: الأكل من فوق كثرة الأشجار المثمرة، ومن تحت الأرجل الزروع المغلة، والرابع: المراد أن يرزقهم الجنان اليانعة الثمار، فيجتنون ما تهدل من رؤوس الشجر، ويلتقطون ما تساقط على الأرض من تحت أرجلهم، والخامس: يشبه أن يكون هذا إشارة إلى ما جرى على اليهود من بني قريظة وبني النضير من قطع نخيلهم وإفساد زروعهم وإجلائهم عن أوطانهم. ثم قال تعالى: * (منهم أمة مقتصدة) * معنى الاقتصاد في اللغة الاعتدال في العمل من غير غلو ولا تقصير، وأصله القصد، وذلك لأن من عرف مطلوبه فإنه يكون قاصدا له على الطريق المستقيم من غير انحراف ولا اضطراب، أما من لم يعرف موضع مقصوده فإنه يكون متحيرا، تارة يذهب يمينا وأخرى يسارا، فلهذا السبب جعل الاقتصاد عبارة عن العمل المؤدي إلى الغرض، ثم في هذه الأمة المقتصدة قولان: أحدهما: أن المراد منها الذين آمنوا من أهل الكتاب: كعبد الله بن سلام من اليهود، والنجاشي من النصارى، فهم على القصد من دينهم، وعلى المنهج المستقيم منه، ولم يميلوا إلى طرفي الافراط والتفريط. والثاني: المراد منها الكفار من أهل الكتاب الذين يكونون عدولا في دينهم، ولا يكون فيهم عناد شديد ولا غلظة كاملة، كما قال * (ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك) * (آل عمران: 75). ثم قال تعالى: * (وكثير منهم ساء ما يعملون) * وفيه معنى التعجب كأنه قيل: وكثير منهم ما أسوأ عملهم، والمراد: منهم الأجلاف المذمومون المبغضون الذين لا يؤثر فيهم الدليل ولا
(٤٧)