والقول الثاني: في تفسير هذه الآية قول من يقول: القرآن واف ببيان جميع الأحكام وتقريره أن الأصل براءة الذمة في حق جميع التكليف، وشغل الذمة لا بد فيه من دليل منفصل والتنصيص على أقسام ما لم يرد فيه التكليف ممتنع، لأن الأقسام التي لم يرد التكليف فيها غير متناهية، والتنصيص على ما لا نهاية له محال بل التنصيص إنما يمكن على المتناهي مثلا لله تعالى ألف تكليف على العباد وذكره في القرآن وأمر محمدا عليه السلام بتبليغ ذلك الألف تكليف آخر، ثم أكد هذه الآية بقوله * (اليوم أكملت لكم دينكم) * (المائدة: 3) وبقوله: * (ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين) * (الانعام: 59) فهذا تقرير مذهب هؤلاء، والاستقصاء فيه إنما يليق بأصول الفقه، والله أعلم. ولنرجع الآن إلى التفسير، فنقول: قوله * (من شيء) * قال الواحدي * (من) * زائدة كقوله: ما جاء لي من أحد. وتقريره ما تركنا في الكتاب شيئا لم نبينه. وأقول: كلمة * (من) * للتبعيض فكان المعنى ما فرطنا في الكتاب بعض شيء يحتاج المكلف إليه، وهذا هو نهاية المبالغة في أنه تعالى ما ترك شيئا مما يحتاج المكلف إلى معرفته في هذا الكتاب. وأما قوله * (ثم إلى ربهم يحشرون) * فالمعنى أنه تعالى يحشر الدواب والطيور يوم القيامة. ويتأكد هذا بقوله تعالى: * (وإذا الوحوش حشرت) * (التكوير: 5) وبما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يقتص للجماء من القرناء " وللعقلاء فيه قولان: القول الأول: أنه تعالى يحشر البهائم والطيور لإيصال الأعواض إليها وهو قول المعتزلة. وذلك لأن إيصال الآلام إليها من سبق جناية لا يحسن إلا للعوض، ولما كان إيصال العوض إليها واجبا، فالله تعالى يحشرها ليوصل تلك الأعواض إليها. والقول الثاني: قول أصحابنا أن الإيجاب على الله محال، بل الله تعالى يحشرها بمجرد الإرادة والمشيئة ومقتضى الإلهية. واحتجوا على أن القول بوجوب العوض على الله تعالى محال باطل بأمور: الحجة الأولى: أن الوجوب عبارة عن كونه مستلزما للذم عند الترك وكونه تعالى مستلزما للذم محال، لأنه تعالى كامل لذاته والكامل لذاته لا يعقل كونه مستلزما للذم بسبب أمر منفصل، لأن ما بالذات لا يبطل عنه عروض أمر من الخارج. والحجة الثانية: أنه تعالى مالك لكل المحدثات، والمالك يحسن تصرفه في ملك نفسه من غير حاجة إلى العوض. والحجة الثالثة: أنه لو حسن إيصال الضرر إلى الغير لأجل العوض، لوجب أن يحسن منا
(٢١٨)