الحيوانات، وكلما كانت تلك الأرواح أكثر شقاوة واستحقاقا للعذاب نقلت إلى بدن حيوان أخس وأكثر شقاء وتعبا، واحتجوا على صحة قولهم بهذه الآية فقالوا: صريح هذه الآية يدل على أنه لا دابة ولا طائر إلا وهي أمثالنا، ولفظ المماثلة يقتضي حصول المساواة في جميع الصفات الذاتية أما الصفات العرضية المفارقة، فالمساواة فيها غير معتبرة في حصول المماثلة. ثم إن القائلين بهذا القول زادوا عليه، وقالوا: قد ثبت هذا أن أرواح جميع الحيوانات عارفة بربها وعارفة بما يحصل لها من السعادة والشقاوة، وأن الله تعالى أرسل إلى كل جنس منها رسولا من جنسها، واحتجوا عليه بأنه ثبت بهذه الآية أن الدواب والطيور أمم. ثم إنه تعالى قال: * (وإن من أمة إلا خلا فيها نذير) * (فاطر: 24) وذلك تصريح بأن لكل طائفة من هذه الحيوانات رسولا أرسله الله إليها. ثم أكدوا ذلك بقصة الهدهد، وقصة النمل، وسائر القصص المذكورة في القرآن. واعلم أن القوم بالتناسخ قد أبطلناه بالدلائل الجيدة في علم الأصول، وأما هذه الآية فقد ذكرنا ما يكفي في صدق حصول المماثلة في بعض الأمرة المذكورة، فلا حاجة إلى إثبات ما ذكره أهل التناسخ. والله أعلم. ثم قال تعالى: * (ما فرطنا في الكتاب من شيء) * وفي المراد بالكتاب قولان: القول الأول: المراد منه الكتاب المحفوظ في العرش وعالم السماوات المشتمل على جميع أحوال المخلوقات على التفصيل التام، كما قال عليه السلام: " جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة ". والقول الثاني: أن المراد منه القرآن، وهذا أظهر لأن الألف واللام إذا دخلا على الاسم المفرد انصرف إلى المعهود السابق، والمعهود السابق من الكتاب عند المسلمين هو القرآن، فوجب أن يكون المراد من الكتاب في هذه الآية القرآن. إذا ثبت هذا فلقائل أن يقول: كيف قال تعالى: * (ما فرطنا في الكتاب من شيء) * مع أنه ليس فيه تفاصيل علم الطب وتفاصيل علم الحساب، ولا تفاصيل كثير من المباحث والعلوم، وليس فيه أيضا تفاصيل مذاهب الناس ودلائلهم في علم الأصول والفروع؟ والجواب: أن قوله * (ما فرطنا في الكتاب من شيء) * يجب أن يكون مخصوصا ببيان الأشياء التي يجب معرفتها، والإحاطة بها وبيانه من وجهين: الأول: أن لفظ التفريط لا يستعمل نفيا وإثباتا إلا فيما يجب أن يبين لأن أحدا لا ينسب إلى التفريط والتقصير في أن لا يفعل ما لا حاجة إليه، وإنما يذكر هذا اللفظ فيما إذا قصر فيما يحتاج إليه. الثاني: أن جميع آيات القرآن أو الكثير منها دالة بالمطابقة أو التضمن أو الالتزام على أن المقصود من إنزال هذا الكتاب بيان الدين
(٢١٥)