وأما الوجه الثاني: وهو أن يكون المقصود من هذا الكلام تقرير أمر المعاد، فنقول لما ثبت أن تخليق بدن الإنسان إنما حصل، لأن الفاعل الحكيم والمقدر الرحيم، رتب حلقة هذه الأعضاء على هذه الصفات المختلفة بحكمته وقدرته، وتلك القدرة والحكمة باقية بعد موت الحيوان فيكون قادرا على إعادتها وإعادة الحياة فيها، وذلك يدل على صحة القول بالمعاد. وأما قوله تعالى: * (ثم قضى أجلا) * ففيه مباحث: المبحث الأول: لفظ القضاء قد يرد بمعنى الحكم والأمر. قال تعالى: وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه) * (الأسرار: 23) وبمعنى الخبر والاعلام. قال تعالى: * (وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب) * (الإسرار: 4) وبمعنى صفة الفعل إذا تم. قال تعالى: * (فقضاهن سبع سماوات في يومين) * (فصلت: 12) ومنه قولهم قضى فلان حاجة فلان. وأما الأجل فهو في اللغة عبارة عن الوقت المضروب لانقضاء الأمد، وأجل الإنسان هو الوقت المضروب لانقضاء عمره، وأجل الدين محله لانقضاء التأخير فيه وأصله من التأخير يقال أجل الشيء يأجل أجولا، وهو آجل إذا تأخر والآجل نقيض العاجل. إذا عرفت هذا فقوله * (ثم قضى أجلا) * معناه أنه تعالى خصص موت كل واحد بوقت معين وذلك التخصيص عبارة عن تعلق مشيئته بإيقاع ذلك الموت في ذلك الوقت. ونظير هذه الآية قوله تعالى: * (ثم إنكم بعد ذلك يميتون) * (المؤمنون: 15). وأما قوله تعالى: * (وأجل مسمى عنده) * فاعلم أن صريح هذه الآية يدل على حصول أجلين لكل إنسان. واختلف المفسرون في تفسيرهما على وجوه: الأول: قال أبو مسلم قوله * (ثم قضى أجلا) * المراد منه آجال الماضين من الخلق وقوله * (وأجل مسمى عنده) * المراد منه آجال الباقين من الخلق فهو خص هذا الأجل. الثاني: بكونه مسمى عنده، لأن الماضين لما ماتوا صارت آجالهم معلومة، أما الباقون فهم بعد لم يموتوا فلم تصر آجالهم معلومة، فلهذا المعنى قال: * (وأجل مسمى عنده) * والثاني: أن الأجل الأول هو أجل الموت والأجل المسمى عند الله هو أجل القيامة، لأن مدة حياتهم في الآخرة لا آخرة لها ولا انقضاء ولا يعلم أحد كيفية الحال في هذا الأجل إلا الله سبحانه وتعالى. والثالث: الأجل الأول ما بين أن يخلق إلى أن يموت. والثاني: ما بين الموت والبعث وهو البرزخ. والرابع: أن الأول: هو النوم والثاني: الموت. والخامس: أو الأجل الأول مقدار ما انقضى من عمر كل أحد، والأجل الثاني: مقدار ما بقي من عمر كل أحد. والسادس: وهو قول حكماء الإسلام أن لكل إنسان أجلين: أحدهما: الآجال الطبيعية. والثاني: الآجال الاخترامية. أما الآجال الطبيعية: فهي التي لو بقي ذلك المزاج
(١٥٣)