والخامس: أنه تعالى قال: * (وهو معكم أينما كنتم) * (الحديد: 4) وقال: * (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) * (ق: 16) وقال: * (وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله) * (الزخرف: 84) وقال * (فأينما تولوا فثم وجه الله) * (البقرة: 115) وكل ذلك يبطل القول بالمكان والجهة صلى الله عليه وسلم تعالى، فثبت بهذه الدلائل أنه لا يمكن حمل هذا الكلام على ظاهره فوجب التأويل وهو من وجوه: الأول: أن قوله * (وهو الله في السماوات وفي الأرض) * يعني وهو الله في تدبير السماوات والأرض كما يقال: فلان في أمر كذا أي في تدبيره وإصلاح مهماته، ونظيره قوله تعالى: * (وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله) * والثاني: أن قوله * (وهو الله) * كلام تام، ثم ابتدأ وقال: * (في السماوات وفي الأرض يعمل سركم وجهركم) * والمعنى إله سبحانه وتعالى يعلم في السماوات سرائر الملائكة، وفي الأرض يعلم سرائر الإنس والجن. والثالث: أن يكون الكلام على التقديم والتأخير والتقدير: وهو الله يعلم في السماوات وفي الأرض سركم وجهركم، ومما يقوي هذه التأويلات أن قولنا: وهو الله نظير قولنا هو الفاضل العالم، وكلمة هو إنما تذكر ههنا لإفادة الحصر، وهذه الفائدة إنما تحصل إذا جعلنا لفظ الله اسما مشتقا فأما لو جعلناه اسم علم شخص قائم مقام التعيين لم يصح إدخال هذه اللفظة عليه، وإذا جعلنا قولنا: الله لفظا مفيدا صار معناه وهو المعبود في السماء وفي الأرض، وعلى هذا التقدير يزول السؤال والله أعلم. المسألة الثانية: المراد بالسر صفات القلوب وهي الدواعي والصوارف، والمراد بالجهر أعمال الجوارح، وإنما قدم ذكر السر على ذكر الجهر لأن المؤثر في الفعل هو مجموع القدرة مع الداعي، فالداعية التي هي من باب السر هي المؤثرة في أعمال الجوارح المسماة بالجهر، وقد ثبت أن العلم بالعلة علة للعلم بالمعلول، والعلة متقدمة على المعلول، والمتقدم بالذات يجب تقديمه بحسب اللفظ. المسألة الثالثة: قوله * (ويعلم ما تكسبون) * فيه سؤال: وهو أن الأفعال إما أفعال القلوب وهي المسماة بالسر، وإما أعمال الجوارح وهي المسماة بالجهر. فالأفعال لا تخرج عن السر والجهر فكان قوله * (ويعلم ما تكسبون) * يقتضي عطف الشيء على نفسه، وأنه فاسد.
والجواب: يجب حمل قوله * (ما تكسبون) * على ما يستحقه الإنسان على فعله من ثواب وعقاب والحاصل أنه محمول على المكتسب كما يقال: هذا المال كسب فلان أي مكتسبه، ولا يجوز حمله على نفس الكسب، وإلا لزم عطف الشيء على نفسه على ما ذكرتموه في السؤال. المسألة الرابعة: الآية تدل على كون الإنسان مكتسبا للفعل والكسب هو الفعل المفضي إلى اجتلاب نفع أو دفع ضر، ولهذا السبب لا يوصف فعل الله بأنه كسب لكونه تعالى منزها عن جلب النفع ودفع الضرر والله أعلم.