بشهادة التوراة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فلا حجة أقوى من ذلك، فلا جرم كان بعضهم يمنع بعضا من الاعتراف بذلك عند محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قال القفال: قوله: * (فتح الله عليكم) * مأخوذ من قولهم قد فتح على فلان في علم كذا أي رزق ذلك وسهل له طلبه.
أما قوله: * (عند ربكم) * ففيه وجوه. أحدها: أنهم جعلوا محاجتهم به وقوله هو في كتابكم هكذا محاجة عند الله، ألا تراك تقول هو في كتاب الله هكذا وهو عند الله هكذا بمعنى واحد. وثانيها: قال الحسن: أي ليحاجوكم في ربكم لأن المحاجة فيما ألزم الله تعالى من اتباع الرسل تصح أن توصف بأنها محاجة فيه لأنها محاجة في دينه. وثالثها: قال الأصم: المراد يحاجوكم يوم القيامة وعند التساؤل فيكون ذلك زائدا في توبيخكم وظهور فضيحتكم على رؤوس الخلائق في الموقف لأنه ليس من اعتراف بالحق ثم كتم كمن ثبت على الإنكار فكان القوم يعتقدون أن ظهور ذلك مما يزيد في انكشاف فضيحتهم في الآخرة. ورابعها: قال القاضي أبو بكر: إن المحتج بالشيء قد يحتج ويكون غرضه من إظهار تلك الحجة حصول السرور بسبب غلبة الخصم وقد يكون غرضه منه الديانة والنصيحة، فقط ليقطع عذر خصمه ويقرر حجة الله عليه فقال القوم عند الخلوة قد حدثتموهم بما فتح الله عليكم من حجتهم في التوراة فصاروا يتمكنون من الاحتجاج به على وجه الديانة والنصيحة، لأن من يذكر الحجة على هذا الوجه قد يقول لصاحبه قد أوجبت عليك عند الله وأقمت عليك الحجة بيني وبين ربي فإن قبلت أحسنت إلى نفسك وإن جحدت كنت الخاسر الخائب. وخامسها: قال القفال: يقال: فلان عندي عالم أي في اعتقادي وحكمي، وهذا عند الشافعي حلال وعند أبي حنيفة حرام، أي في حكمهما وقوله: * (ليحاجوكم به عند ربكم) * أي لتصيروا محجوجين بتلك الدلائل في حكم الله. وتأول بعض العلماء قوله تعالى: * (فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون) * (النور: 13) أي في حكم الله وقضائه لأن القاذف إذا لم يأت بالشهود لزمه حكم الكاذبين وإن كان في نفسه صادقا.
أما قوله: * (أفلا تعقلون) * ففيه وجوه. أحدها: أنه يرجع إلى المؤمنين فكأنه تعالى قال: أفلا تعقلون لما ذكرته لكم من صفتهم أن الأمر لا مطمع لكم في إيمانهم. وهو قول الحسن. وثانيها: أنه راجع إليهم فكأن عندما خلا بعضهم ببعض قالوا لهم أتحدثونهم بما يرجع وباله عليكم وتصيرون محجوجين به، أفلا تعقلون أن ذلك لا يليق بما أنتم عليه. وهذا الوجه أظهر لأنه من تمام الحكاية عنهم فلا وجه لصرفه عنهم إلى غيرهم.
أما قوله تعالى: * (أو لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون) * ففيه قولان، الأول: وهو قول الأكثرين إن اليهود كانوا يعرفون الله ويعرفون أنه تعالى يعلم السر والعلانية فخوفهم الله به. الثاني: أنهم ما علموا بذلك فرغبهم بهذا القول في أن يتفكروا فيعرفوا أن لهم ربا يعلم سرهم وعلانيتهم وأنهم لا يأمنون حلول العقاب بسبب نفاقهم، وعلى القولين جميعا، فهذا الكلام زجر