حكمة الاعتكاف في العشر المذكور، وهو قوله (لطلب ليلة القدر) فيحييها بالصلاة والقراءة وكثرة الدعاء، فإنها أفضل ليالي السنة، قال تعالى: * (ليلة القدر خير من ألف شهر) * أي خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر. وفي الصحيحين:
من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه وظاهر كلام المصنف انحصارها في العشر الأخير، وهو ما نص عليه الشافعي رحمه الله تعالى، وعليه الجمهور، وأنها تلزم ليلة بعينها لا تنتقل. وقال المازني وابن خزيمة: إنها منتقلة في ليالي العشر، جمعا بين الأحاديث. قال في الروضة: وهو قوي، وقال في المجموع: إنه الظاهر المختار لكن المذهب الأول. قال المصنف في شرح مسلم: ولا ينال فضلها إلا من أطلعه الله عليها، فلو قامها إنسان ولم يشعر بها لم ينل فضلها.
قال الأذرعي: وكلام المتولي ينازعه حيث قال: يستحب التعبد في كل ليالي العشر حتى يحوز الفضيلة على اليقين اه، وهذا أولى، نعم حال من اطلع أكمل إذا قام بوظائفها. وقد نقل في زوائد الروضة عن نصه في القديم أن من شهد العشاء والصبح في جماعة فقد أخذ بحظه منها، وروي عن أبي هريرة مرفوعا: من صلى العشاء الأخيرة في جماعة من رمضان فقد أدرك ليلة القدر. ويستحب أن يكثر في ليلتها من قول: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني، وأن يجتهد في يومها كما يجتهد في ليلتها. وخصت بها هذه الأمة، وهي باقية إلى يوم القيامة، ويسن لمن رآها أن يكتمها. (وميل الشافعي رحمه الله) تعالى (إلى أنها ليلة الحادي) والعشرين (أو الثالث والعشرين) منه، يدل للأول خبر الصحيحين، وللثاني خبر مسلم، وما ذكره المصنف هو نص المختصر، والذي قاله الأكثرون إن ميله إلى أنها ليلة الحادي والعشرين لا غير، وفي القديم أرجاها ليلة إحدى أو ثلاث أو سبع وعشرين، ثم بقية الأوتار، ليلة أشفاع العشر الأواخر. وقال ابن عمر وجماعة: إنها في جميع الشهر، وخصها بعض العلماء بأوتار العشر الأواخر، وبعضهم بأشفاعه. وقال ابن عباس وأبي: هي ليلة سبع وعشرين، وهو مذهب أكثر أهل العلم، وفيها نحو الثلاثين قولا، والسبب في إبهامها على الناس أن يكثر اجتهادهم في كل السنة ويطلبونها في جميعها. ومن علاماتها أنها طلقة لا حارة ولا باردة، وتطلع الشمس في صبيحتها بيضاء ليس فيها كثير شعاع. فإن قيل: لا فائدة في هذه العلامة لأنها قد انقضت. أجيب بأنه يستحب أن يجتهد في يومها كما تقدم وأنه يبقى يعرفها على ما تقدم عن الشافعي أنها تلزم ليلة واحدة. وأركان الاعتكاف أربعة: مسجد، ولبث، ونية، ومعتكف. وقد شرع في أولها فقال: (وإنما يصح الاعتكاف في المسجد) للاتباع رواه الشيخان، وللاجماع، ولقوله تعالى: * (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد) * إذ ذكر المساجد لا جائز أن يكون لجعلها شرطا في منع مباشرة المعتكف لمنعه منها وإن كان خارج المسجد، ولمنع غيره أيضا منها، فتعين كونها شرطا لصحة الاعتكاف. ولا يفتقر شئ من العبادات إلى مسجد إلا التحية والاعتكاف والطواف، ولا فرق بين سطح المسجد وغيره، ولا يصح في رحبته لأنها منه، ولا يصح فيما وقف جزؤه شائعا مسجدا وإن حرم على الجنب المكث فيه للاحتياط، ولا فيما أرضه مستأجرة ووقف بناؤه مسجدا على القول بصحة الوقف وهو الأصح، والحيلة في الاعتكاف فيه أن يبني فيه مصطبة أو ضفة أو نحو ذلك ويوقفها مسجدا فيصح الاعتكاف فيها كما يصح على سطحه وجدرانه، ولا يغتر بما وقع للزركشي من أنه يصح الاعتكاف فيه وإن لم يبن نحو مصطبة. وقد علم مما تقرر أنه لا يصح وقف المقول مسجدا، ولا يغتر بما وقع في فتاوى بعض المتأخرين من الصحة. (و) المسجد (الجامع) وهو ما تقام فيه الجمعة (أولى) بالاعتكاف فيه من غيره للخروج من خلاف من أوجبه ولكثرة الجماعة فيه، وللاستغناء عن الخروج للجمعة. ويجب الجامع للاعتكاف فيه إن نذر مدة متتابعة فيها يوم الجمعة وكان ممن تلزمه الجمعة ولم يشترط الخروج لها، لأن الخروج لها يقطع التتابع لتقصيره بعدم اعتكافه في الجامع.
ويؤخذ من هذا كما قال الأذرعي أنه لو كانت الجمعة تقام بين أبنية القرية لا في جامع لم يبطل تتابعه بالخروج لها، وكذا لو كانت القرية صغيرة لا تنعقد الجمعة بأهلها فأحدث بها جامع وجماعة بعد نذره واعتكافه، ولو استثنى الخروج لها وكان