وزهادته وسؤدده وسيادته كان ذا كرامات ظاهرة وآيات باهرة وسطوات قاهرة، فلذلك أحيا الله تعالى ذكره بعد مماته، واعترف اله العلم بعظيم بركاته ونفع بتصانيفه في حياته وبعد وفاته فلا يكاد يستغنى عنها أحد من أصحاب المذاهب المختلفة ولا تزال القلوب على محبة ما الفه مؤتلفة، قد دأب في طلب العلم حتى فاق أهل زمانه ودعا إلى الله تعالى في سره واعلانه.
حفظ التنبيه في أربعة أشهر ونصف وحفظ زبع المهذب في بقية السنة ومكث قريبا من سنتين لا يضع جنبه على الأرض، وكان يقرا في اليوم والليلة اثنى عشر درسا في عدة من العلوم وكان يديم الصيام ولا تزال مقلته ساهرة ولا يأكل من فواكه دمشق لما في ضمنها من الشبه الظاهرة ولا يدخل الحمام تنعما وانخرط في سلك " إنما يخشى الله من عباده العلماء " وكان يقتات مما يأتيه من قبل أبويه كفافا ويؤثر على نفسه الذين لا يسألون الناس الحافا، فلذلك لم يتزوج إلى أن خرج من الدنيا معافى ولا يأكل الا اكلة واحدة في اليوم والليلة بعد العشاء الآخرة ولا يشرب الأشربة واحدة عند السحر ولا يشرب الماء المبرد الملقى فيه الثلج وكان كثير السهر في العبادة والتصنيف آمرا بالمعروف وناهيا عن المنكر يواجه الملوك فمن دونهم، وحج حجتين مبرورتين لا رياء فيهما ولا سمعة وطهر الله من الفواحش قلبه ولسانه وسمعه وأولى دار الحديث الأشرفية سنة خمس وستين وستمائة فلم يأخذ من علومها شيئا إلى أن توفى وكان يلبس ثوبا قطنا وعمامة سختيانية وفي لحيته شعرات بيض وعليه سكينة ووقار في حال البحث مع الفقهاء وفي غيره. ولد في العشر الأول من المحرم سنة إحدى وثلاثين وستمائة بنوى ثم انتقل إلى دمشق ثم سافر إلى بلده وزار القدس والخليل ثم عاد إليها فمرض بها عند أبويه وتوفى ليلة الأربعاء رابع عشر شهر رجب سنة ست وسبعين وستمائة ودفن ببلده، وهذه إشارة لطيفة ذكرناها من بعض مناقبه تبركا به رضى الله تعالى عنه وأحله رضا رضوانه، ومتعه بوجهه الكريم وبالداني من ثمار جنانه.
ولما كانت الصلاة أفضل العبادات تعد الايمان ومن أعظم شروطها الطهارة لقوله صلى الله عليه وسلم " مفتاح الصلاة الطهور " والشرط مقدم طبعا فقدم وضعا بدا المصنف بها فقال: هذا: (كتاب) بيان أحكام (الطهارة) اعلم أن الكتاب لغة معناه الضم والجمع، يقال: كتبت كتبا وكتابة وكتابا، ومنه قولهم: تكتبت بنو فلان، إذا اجتمعوا، وكتب: إذا خط بالقلم لما فيه من اجتماع الكلمات والحروف، فهو إما مصدر لكن لضم مخصوص أو اسم مفعول بمعنى مكتوب، كقولهم: هذا درهم ضرب الأمير، أي مضروبه. أو اسم فاعل بمعنى الجامع لما أضيف إليه. قال أبو حيان: ولا يصح أن يكون مشتقا من الكتب لأن المصدر لا يشتق من المصدر. وأجيب بأن المزيد يشتق من المجرد.
واصطلاحا اسم لجملة مختصة من العلم، ويعبر عنها بالباب وبالفصل أيضا، فإن جمع بين الثلاثة قيل: الكتاب اسم لجملة مختصة من العلم مشتملة على أبواب وفصول غالبا، والباب اسم لجملة مختصة من الكتاب مشتملة على فصول غالبا، والفصل اسم لجملة مختصة من الباب مشتملة على مسائل غالبا. والباب لغة: ما يتوصل منه إلى غيره، والفصل لغة: هو الحاجز. والكتاب هنا خبر مبتدأ محذوف مضاف إلى محذوفين كما قدرته، وكذا كل كتاب وباب وفصل بحسب ما يليق به. وإذ قد علمت ذلك فلا احتياج إلى تقدير ذلك في كل كتاب أو باب كما فعلت في شرح التنبيه بعدما ذكر اختصارا.
والطهارة بالفتح مصدر طهر بفتح الهاء وضمها، والفتح أفصح، يطهر بالضم فيهما. وهي لغة: النظافة والخلوص من الأدناس حسية كالأنجاس أو معنوية كالعيوب، يقال: تطهر بالماء، وهم قوم يتطهرون: أي يتنزهون عن العيب. وشرعا:
تستعمل بمعنى زوال المنع المترتب على الحدث والخبث، وبمعنى الفعل الموضوع لإفادة ذلك أو لإفادة بعض آثاره كالتيمم فإنه يفيد جواز الصلاة الذي هو من آثار ذلك، والمراد هنا الثاني لا جرم. وقد عرفها المصنف في مجموعه مدخلا فيها الأغسال المسنونة ونحوها بأنها رفع حدث أو إزالة نجس أو ما في معناهما وعلى صورتهما. وقوله: وعلى صورتهما يعلم به أنه لم يرد بما في معناهما ما يشاركهما في الحقيقة، ولهذا قال: وقولنا أو ما في معناهما أردنا به التيمم والأغسال المسنونة