والتحقيق في المقام أن المقادير المنفصلة، وهي أسماء العدد لم يثبت فيها هذا التسامح، بل المعلوم جريان استعمال العرف لها على طبق ما وضعت لها من مراتب العدد.
وأما المتصلة، وهي الألفاظ الموضوعة لمقادير لم يلحظ فيها التعدد، بل الملحوظ فيها أجزاء مجتمعة بهيئة الاجتماع، كلفظ (المن، والقفيز) ونحوهما من الألفاظ الموضوعة لمقدار خاص من المكيلات والموزونات، وكلفظ (الفرسخ والميل والشبر والقدم) ونحوها من الألفاظ الموضوعة لمقدار خاص من المساحات، فالذي نراه من عمل العلماء فيما إذا وقعت تلك الألفاظ في حيز الحكم الشرعي، وصارت موضوعة له أنهم يعملون فيها الدقة الحكمية، بحيث لا يجوزون التسامح ولو بيسير، غايته كما في مسألة القصر، حيث إنه منوط في الأدلة الشرعية بثمانية فراسخ، ونراهم أنه لو نقص منها شبر، لا يحكمون بتعين التقصير.
وكيف كان فالمعلوم من حالهم أنهم يلاحظون بالدقائق الحكمية فيها.
والذي يظهر من الإطلاقات العرفية التسامح بما لا يعتد به، ألا ترى أنه لو قال أحد: مشيت فرسخا، وكان المقدار الممشي عليه أقل من فرسخ بمائة قدم، لا يكذبه العرف حينئذ، بل يصدقونه مع أن العلماء لا يغتفر عندهم شبر في الزيادة والنقصان فيما إذا وقع الفرسخ في حيز الحكم الشرعي.
وبالجملة فعمل العلماء مناف للإطلاقات العرفية، وكون تلك الألفاظ حقائق عرفية في تلك المسامحات، كان يقتضي أن يكون عمل العلماء على طبقها، حيث إنه إذا وقع التعارض بين حمل اللفظ في الخطابات الشرعية على معناه اللغوي، وبين حمله على معناه العرفي، فالأصل حمله على الثاني، كما سنتلوا عليك في مبحث تعارض العرف واللغة.
ويمكن التوفيق بينهما بوجوه:
أحدها: التزام كون تلك الألفاظ منقولة من معانيها اللغوية إلى القدر المشترك بين الزائد والناقص الذي يقبل هذا التسامح، لكن مصير العلماء إلى معانيها اللغوية، إنما هو بسبب قيام قرينة عامة عندهم على إرادة المعاني اللغوية في الخطابات الشرعية من إجماع ونحوه.
وثانيها: التزام كونها مشتركة لفظا لغة بين المعاني المذكورة وبين