تعالى في الأشهر الحرم " فلا تظلموا فيهن أنفسكم " وإن كان هذا منهيا عنه في غيرها ولكن فيها آكد لشدة حرمتها وعظمها ولهذا قال تعالى " فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم " أي في سائر أحوالكم ثم قال تعالى " فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة " أي فإذا أمنتم وذهب الخوف وحصلت الطمأنينة " فأقيموا الصلاة " أي فأتموها وأقيموها كما أمرتم بحدودها وخشوعها وركوعها وسجودها وجميع شؤونها وقوله تعالى " إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا " قال ابن عباس أي مفروضا وقال أيضا: أن للصلاة وقتا كوقت الحج وكذا روى عن مجاهد وسالم بن عبد الله وعلي بن الحسين ومحمد بن علي والحسن ومقاتل والسدي وعطية العوفي وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة " إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا قال ابن مسعود: إن للصلاة وقتا كوقت الحج وقال زيد بن أسلم " إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا " قال منجما كلما مضى نجم جاء نجم يعني كلما مضى وقت وجاء وقت. وقوله تعالى " ولا تهنوا في ابتغاء القوم " أي لا تضعفوا في طلب عدوكم بل جدوا فيهم وقاتلوهم واقعدوا لهم كل مرصد " إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون " أي كما يصيبكم الجراح والقتل كذلك يحصل لهم كما قال تعالى " إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله " ثم قال تعالى " وترجون من الله ما لا يرجون " أي أنتم وإياهم سواء فيما يصيبكم وإياهم والجراح والآلام ولكن أنتم ترجون من الله المثوبة والنصر والتأييد كما وعدكم إياه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وهو وعد حق وخبر صدق وهم لا يرجون شيئا من ذلك فأنتم أولى بالجهاد منهم وأشد رغبة فيه وفي إقامة كلمة الله وإعلائها " وكان الله عليما حكيما " أي هو أعلم وأحكم فيما يقدره ويقضيه وينفذه ويمضيه من أحكامه الكونية والشرعية وهو المحمود على كل حال.
إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لنحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما (105) واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما (106) ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما (107) يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا (108) ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا (109) يقول تعالى مخاطبا لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم " إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق " أي هو حق من الله وهو يتضمن الحق في خبره وطلبه وقوله " لتحكم بين الناس بما أراك الله " احتج به من ذهب من علماء الأصول إلى أنه كان صلى الله عليه وسلم له أن يحكم بالاجتهاد بهذه الآية وبما ثبت في الصحيحين عن هشام بن عروة عن أبيه عن زينب بنت أم سلمة عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع جلبة خصم بباب حجرته فخرج إليهم فقال " ألا إنما أنا بشر وإنما أقضي بنحو مما أسمع ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليحملها أو ليذرها " وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع حدثنا أسامة بن زيد عن عبد الله بن رافع عن أم سلمة قالت: جاء رجلان من الأنصار يختصمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواريث بينهما قد درست ليس عندهما بينة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنكم تختصمون إلي وإنما أنا بشر ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض وإنما أقضي بينكم على نحو ما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها انتظاما في عنقه يوم القيامة " فبكى الرجلان وقال كل منهما: حقي لأخي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أما إذا قلتما فاذهبا فاقتسما ثم توخيا الحق بينكما ثم استهما ثم ليحلل كل منكما صاحبه " وقد رواه أبو داود من حديث أسامة بن زيد به وزاد " إني إنما أقضى بينكما برأي فيما لم ينزل علي فيه " وقد روى ابن مردويه من طريق العوفي عن ابن عباس أن نفرا من الأنصار غزوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته فسرقت درع لأحدهم فأظن بها رجل من الأنصار