وأنتم عاكفون في المساجد " أي لا تقربوهن ما دمتم عاكفين في المسجد ولا في غيره. وكذا قال مجاهد وقتادة وغير واحد إنهم كانوا يفعلون ذلك حتى نزلت هذه الآية. قال ابن أبي حاتم روى عن ابن مسعود ومحمد بن كعب ومجاهد وعطاء والحسن وقتادة والضحاك والسدي والربيع بن أنس ومقاتل: قالوا لا يقربها وهو معتكف وهذا الذي حكاه عن هؤلاء هو الامر المتفق عليه عند العلماء أن المعتكف يحرم عليه النساء ما دام معتكفا في مسجده ولو ذهب إلى منزله لحاجة لا بد له منها فلا يحل له أن يثبت فيه إلا بمقدار ما يفرغ من حاجته تلك من قضاء الغائط أو الاكل وليس له أن يقبل امرأته ولا أن يضمها إليه ولا يشتغل بشئ سوى اعتكافه ولا يعود المريض لكن يسأل عنه وهو مار في طريقه وللاعتكاف أحكام مفصلة في بابها منها ما هو مجمع عليه بين العلماء ومنها ما هو مختلف فيه. وقد ذكرنا قطعة صالحة من ذلك في آخر كتاب الصيام ولله الحمد والمنة ولهذا كان الفقهاء المصنفون يتبعون كتاب الصيام بكتاب الاعتكاف اقتداء بالقرآن العظيم فإنه نبه على ذكر الاعتكاف بعد ذكر الصوم. وفي ذكره تعالى الاعتكاف بعد الصيام إرشاد وتنبيه على الاعتكاف في الصيام أو في آخر شهر الصيام كما ثبتت السنة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يعتكف العشر الأواخر من شهر رمضان حتى توفاه الله عز وجل ثم اعتكف أزواجه من بعده أخرجاه من حديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وفي الصحيحين أن صفية بنت حيي كانت تزور النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو معتكف في المسجد فتحدثت عنده ساعة ثم قامت لترجع إلى منزلها وكان ذلك ليلا فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - ليمشي معها حتى تبلغ دارها وكان منزلها في دار أسامة بن زيد في جانب المدينة فلما كان ببعض الطريق لقيه رجلان من الأنصار فلما رأيا النبي - صلى الله عليه وسلم - أسرعا وفي رواية تواريا أي حياء من النبي - صلى الله عليه وسلم - لكون أهله معه فقال: لهما - صلى الله عليه وسلم - " على رسلكما إنها صفية بنت حيي " أي لا تسرعا واعلما أنها صفية بنت حيي أي زوجتي فقالا سبحان الله يا رسول الله فقال - صلى الله عليه وسلم - " إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا - أو قال - شرا " قال الشافعي رحمه الله أراد عليه السلام أن يعلم أمته التبري من التهمة في محلها لئلا يقعا في محذور وهما كانا أتقى لله من أن يظنا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - شيئا والله أعلم ثم المراد بالمباشرة إنما هو الجماع ودواعيه من تقبيل ومعانقة ونحو ذلك فأما معاطاة الشئ ونحوه فلا بأس به فقد ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدني إلي رأسه فأرجله وأنا حائض وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الانسان قالت عائشة ولقد كان المريض يكون في البيت فما أسأل عنه إلا وأنا مارة وقوله " تلك حدود الله " أي هذا الذي بيناه وفرضناه وحددناه من الصيام وأحكامه وما أبحنا فيه وما حرمنا وذكرنا غاياته ورخصه وعزائمه حدود الله أي شرعها الله وبينها بنفسه فلا تقربوها أي لا تجاوزوها وتتعدوها وكان الضحاك ومقاتل يقولان في قوله " تلك حدود الله " أي المباشرة في الاعتكاف وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم يعني هذه الحدود الأربعة ويقرأ " أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم - حتى بلغ - ثم أتموا الصيام إلى الليل " قال وكان أبي وغيره من مشيختنا يقولون هذا ويتلونه علينا " كذلك يبين الله آياته للناس " أي كما بين الصيام وأحكامه وشرائعه وتفاصيله كذلك يبين سائر الأحكام على لسان عبده ورسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - " للناس لعلهم يتقون " أي يعرفون كيف يهتدون وكيف يطيعون كما قال تعالى " هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور وإن الله بكم لرؤوف رحيم ".
ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالاثم وأنتم تعلمون (188) قال علي بن أبي طلحة وعن ابن عباس هذا في الرجل يكون عليه مال وليس عليه فيه بينة فيجحد المال ويخاصم إلى الحكام وهو يعرف أن الحق عليه وهو يعلم أنه آثم آكل الحرام وكذا روى عن مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة والحسن وقتادة والسدي ومقاتل بن حيان وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنهم قالوا: لا تخاصم وأنت تعلم أنك ظالم وقد ورد في الصحيحين عن أم سلمة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " ألا إنما أنا بشر وإنما يأتيني الخصم فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من نار فليحملها أو