وقوله تعالى " ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء " يخبر تعالى أن الشهداء في برزخهم أحياء يرزقون كما جاء في صحيح مسلم " إن أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر تسرح في الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش فاطلع عليهم ربك اطلاعة فقال ماذا تبغون؟ فقالوا يا ربنا وأي شئ نبغي وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك؟ ثم عاد عليهم بمثل هذا فلما رأوا أنهم لا يتركون من أن يسألوا قالوا نريد أن تردنا إلى الدار الدنيا فنقاتل في سبيلك حتى نقتل فيك مرة أخرى - لما يرون من ثواب الشهادة - فيقول الرب جل جلاله " إني كتبت أنهم إليها لا يرجعون ".
وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن الإمام الشافعي عن الامام مالك عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " نسمة المؤمن طائر تعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه " ففيه دلالة لعموم المؤمنين أيضا وإن كان الشهداء قد خصصوا بالذكر في القرآن تشريفا لهم وتكريما وتعظيما.
ولنبلوكم بشئ من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين (155) الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون (156) أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون (157) أخبرنا تعالى أنه يبتلي عباده: أي يختبرهم ويمتحنهم كما قال تعالى " ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم " فتارة بالسراء وتارة بالضراء من خوف وجوع كما قال تعالى " فأذاقها الله لباس الجوع والخوف " فإن الجائع والخائف كل منهما يظهر ذلك عليه. ولهذا قال لباس الجوع والخوف. وقال ههنا " بشئ من الخوف والجوع " أي بقليل من ذلك " ونقص من الأموال " أي ذهاب بعضها " والأنفس " كموت الأصحاب والأقارب والأحباب " والثمرات " أي لا تغل الحدائق والمزارع كعادتها. قال بعض السلف: فكانت بعض النخيل لا تثمر غير واحدة. وكل هذا وأمثاله مما يختبر الله به عباده. فمن صبر أثابه ومن قنط أحل به عقابه. ولهذا قال تعالى " وبشر الصابرين " وقد حكى بعض المفسرين أن المراد من الخوف ههنا خوف الله وبالجوع صيام رمضان وبنقص الأموال الزكاة والأنفس الأمراض والثمرات الأولاد وفي هذا نظر والله أعلم. ثم بين تعالى من الصابرون الذين شكرهم فقال " الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون " أي تسلوا بقولهم هذا عما أصابهم وعلموا أنهم ملك لله يتصرف في عبيده بما يشاء وعلموا أنه لا يضيع لديه مثقال ذرة يوم القيامة فأحدث لهم ذلك اعترافهم بأنهم عبيده وأنهم إليه راجعون في الدار الآخرة. ولهذا أخبر تعالى عما أعطاهم على ذلك فقال " أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة " أي ثناء من الله عليهم قال سعيد بن جبير: أي أمنة من العذاب " وأولئك هم المهتدون " قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب نعم العدلان ونعمت العلاوة " أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة " فهذان العدلان " وأولئك هم المهتدون " فهذه العلاوة وهي ما توضع بين العدلين وهي زيادة في الحمل فكذلك هؤلاء أعطوا ثوابهم وزيدوا أيضا.
وقد ورد في ثواب الاسترجاع وهو قول " إنا لله وأنا إليه راجعون " عند المصائب أحاديث كثيرة. فمن ذلك ما رواه الإمام أحمد حيث قال: حدثنا يونس بن محمد حدثنا ليث يعني ابن سعد عن يزيد بن عبد الله حدثنا أسامة بن الهاد عن عمرو بن أبي عمرو عن المطلب عن أم سلمة قالت: أتاني أبو سلمة يوما من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لقد سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قولا سررت به قال: " لا يصيب أحدا من المسلمين مصيبة فيسترجع عند مصيبته ثم يقول: اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرا منها. إلا فعل ذلك به " قالت أم سلمة: فحفظت ذلك منه فلما توفي أبو سلمة استرجعت وقلت اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرا منها ثم رجعت إلى نفسي فقلت من