البصري والله أعلم وقوله " فإن الله شاكر عليم " أي يثيب على القليل بالكثير عليم بقدر الجزاء فلا يبخس أحدا ثوابه لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما ".
إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون (159) إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم (160) إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين (161) خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون (163) هذا وعيد شديد لمن كتم ما جاءت به الرسل من الدلالات البينة على المقاصد الصحيحة والهدى النافع للقلوب من بعد ما بينه الله تعالى لعباده في كتبه التي أنزلها على رسله قال أبو العالية نزلت في أهل الكتاب كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم ثم أخبر أنهم يلعنهم كل شئ على صنيعهم ذلك فكما أن العالم يستغفر له كل شئ حتى الحوت في الماء والطير في الهواء فهؤلاء بخلاف العلماء فيلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون وقد ورد في الحديث المسند من طرائق يشد بعضها بعضا عن أبي هريرة وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من سئل عن علم فكتمه الجم يوم القيامة بلجام من نار " والذي في الصحيح عن أبي هريرة أنه قال لولا آية في كتاب الله ما حدثت أحدا شيئا " إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى " الآية وقال ابن أبي حاتم حدثنا الحسن بن عرفة حدثنا عمار بن محمد عن ليث بن أبي سليم عن المنهال بن عمرو عن زاذان بن عمرو عن البراء بن عازب قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة فقال " إن الكفار يضرب ضربة بين عينيه يسمعها كل دابة غير الثقلين فتلعنه كل دابة سمعت صوته فذلك قول الله تعالى " أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون " يعنى دواب الأرض " ورواه ابن ماجة عن محمد بن الصباح عن عامر بن محمد به، وقال عطاء بن أربي رباح: كل دابة والجن والانس وقال مجاهد إذا أجدبت الأرض قال البهائم هذا من أجل عصاة بني آدم لعن الله عصاة بني آدم وقال أبو العالية والربيع بن أنس وقتادة " ويلعنهم اللاعنون " يعني تلعنهم الملائكة والمؤمنون وقد جاء في الحديث " إن العالم يستغفر له كل شئ حتى الحيتان في البحر " وجاء في هذه الآية أن كاتم العلم يلعنه الله والملائكة والناس أجمعون واللاعنون أيضا وهم كل فصيح وأعجمي إما بلسان المقال أو الحال أن لو كان له عقل ويوم القيامة والله أعلم. ثم استثنى الله تعالى من هؤلاء من تاب إليه فقال " إلا الذين تابوا واصلحوا وبينوا " أي رجعوا عما كانوا فيه وأصلحوا أعمالهم وبينوا للناس ما كانوا يكتمونه " فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم " وفي هذا دلالة على أن الداعية إلى كفر أو بدعة إذا تاب إلى الله تاب الله عليه. وقد ورد أن الأمم السابقة لم تكن التوبة تقبل من مثل هؤلاء منهم ولكن هذا من شريعة نبي التوبة ونبي الرحمة صلوات الله وسلامه عليه ثم أخبر تعالى عمن كفر به وأستمر به الحال إلى مماته بأن " عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين خالدين فيها " أي في اللعنة التابعة لهم إلى يوم القيامة ثم المصاحبة لهم في نار جهنم التي " لا يخفف عنهم العذاب " فيها أي لا ينقص عماهم فيه " ولا هم ينظرون " أي لا يغير عنهم ساعة واحدة ولا يفتر بل هو متواصل دائم فنعوذ بالله من ذلك. قال أبو العالية وقتادة إن الكافر يوقف يوم القيامة فيلعنه الله ثم تلعنه الملائكة ثم يلعنه الناس أجمعون.
" فصل " لا خلاف في جواز لعن الكفار وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومن بعده من الأئمة يلعنون الكفرة في القنوت وغيره فأما الكافر المعين فقد ذهب جماعة من العلماء إلى أنه لا يلعن لأنا لا ندري بما يختم الله له وأستدل بعضهم بالآية " إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين " وقالت طائفة أخرى: بل يجوز لعن الكافر المعين، أختاره الفقيه أبو بكر بن العربي المالكي ولكنه احتج بحديث فيه ضعف وأستدل غيره بقوله عليه السلام في قصة الذي كان يؤتى به سكران فيحده فقال رجل لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله " فدل على أن من لا يحب الله ورسوله يلعن والله أعلم.