واعلم أن الماء المنزل من السماء هو المطر، وأما أن المطر نازل من السحاب أو من السماء فقد ذكرناه في هذا الكتاب مرارا، والحاصل: أن ماء المطر قسمان: أحدهما: هو الذي جعله الله تعالى شرابا لنا ولكل حي، وهو المراد بقوله: * (لكم منه شراب) * وقد بين الله تعالى في آية أخرى أن هذه النعمة جليلة فقال: * (وجعلنا من الماء كل شيء حي) * (الأنبياء: 30).
فإن قيل: أفتقولون إن شرب الخلق ليس إلا من المطر، أو تقولون قد يكون منه وقد يكون من غيره، وهو الماء الموجود في قعر الأرض؟
أجاب القاضي: بأنه تعالى بين أن المطر شرابنا ولم ينف أن نشرب من غيره.
ولقائل أن يقول: ظاهر الآية يدل على الحصر، لأن قوله: * (لكم منه شراب) * يفيد الحصر لأن معناه منه لا من غيره.
إذا ثبت هذا فنقول: لا يمتنع أن يكون الماء العذب تحت الأرض من جملة ماء المطر يسكن هناك، والدليل عليه قوله تعالى في سورة المؤمنين: * (وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض) * (المؤمنون: 18) ولا يمتنع أيضا في غير العذب وهو البحر أن يكون من جملة ماء المطر، والقسم الثاني من المياه النازلة من السماء ما يجعله الله سببا لتكوين النبات وإليه الإشارة بقوله: * (ومنه شجر فيه تسيمون) * إلى آخر الآية، وفيه مباحث:
البحث الأول: ظاهر هذه الآية يقتضي أن أسامة الشجر ممكنة، وهذا إنما يصح لو كان المراد من الشجر الكلأ والعشب، وههنا قولان:
القول الأول: قال الزجاج: كل ما ثبت على الأرض فهو شجر وأنشد: يطعمها اللحم إذا عز الشجر يعني أنهم يسقون الخيل اللبن إذا أجدبت الأرض، وقال ابن قتيبة في هذه الآية المراد من الشجر الكلأ، وفي حديث عكرمة لا تأكلوا ثمن الشجر فإنه سحت يعني الكلأ.
ولقائل أن يقول: إنه تعالى قال: * (والنجم والشجر يسجدان) * (الرحمن: 6) والمراد من النجم ما ينجم من الأرض مما ليس له ساق، ومن الشجر ما له ساق، هكذا قال المفسرون، وبالجملة فلما عطف الشجر على النجم دل على التغاير بينهما، ويمكن أن يجاب عنه بأنه عطف الجنس على النوع وبالضد مشهور وأيضا فلفظ الشجر مشعر بالاختلاط، يقال: تشاجر القوم إذا اختلط أصوات بعضهم بالبعض وتشاجرت الرماح إذا اختلطت وقال تعالى: * (حتى يحكموك فيما شجر بينهم) * (النساء: 65) ومعنى الاختلاط حاصل في العشب والكلأ، فوجب جواز إطلاق لفظ الشجر عليه.
القول الثاني: أن الإبل تقدر على رعي ورق الأشجار الكبار، وعلى هذا التقدير فلا حاجة إلى ما ذكرناه في القول الأول.