المسألة الأولى: قال الواحدي رحمه الله: الخزائن جمع الخزانة، وهو اسم المكان الذي يخزن فيه الشيء أي يحفظ والخزانة أيضا عمل الخازن، ويقال: خزن الشيء يخزنه إذا أحرزه في خزانة، وعامة المفسرين على أن المراد بقوله: * (وإن من شيء إلا من عندنا خزائنه) * هو المطر، وذلك لأنه هو السبب للأرزاق ولمعايش بني آدم وغيرهم من الطيور والوحوش، فلما ذكر تعالى أنه يعطيهم المعايش بين أن خزائن المطر الذي هو سبب المعايش عنده، أي في أمره وحكمه وتدبيره، وقوله: * (وما ننزله إلا بقدر معلوم) * قال ابن عباس رحمهما الله: يريد قدر الكفاية، وقال الحكم: ما من عام بأكثر مطرا من عام آخر، ولكنه يمطر قوم ويحرم قوم آخرون، وربما كان في البحر، يعني أن الله تعالى ينزل المطر كل عام بقدر معلوم، غير أنه يصرفه إلى من يشاء حيث شاء كما شاء.
ولقائل أن يقول: لفظ الآية لا يدل على هذا المعنى، فإن قوله تعالى: * (وما ننزله إلا بقدر معلوم) * لا يدل على أنه تعالى ينزله في جميع الأعوام على قدر واحد، وإذا كان كذلك كان تفسير الآية بهذا المعنى تحكما من غير دليل. وأقول أيضا: تخصيص قوله تعالى: * (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه) * بالمطر تحكم محض، لأن قوله: * (وإن من شيء) * يتناول جميع الأشياء إلا ما خصه الدليل، وهو الموجود القديم الواجب لذاته، وقوله: * (إن عندنا خزائنه) * إشارة إلى كون تلك الأشياء مقدورة له تعالى. وحاصل الأمر فيه أن المراد أن جميع الممكنات مقدورة له، ومملوكة يخرجها من العدم إلى الوجود كيف شاء إلا أنه تعالى وإن كانت مقدوراته غير متناهية إلا أن الذي يخرجه منها إلى الوجود يجب أن يكون متناهيا لأن دخول ما لا نهاية له في الوجود محال فقوله: * (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه) * إشارة إلى كون مقدوراته غير متناهية وقوله: * (وما ننزله إلا بقدر معلوم) * إشارة إلى أن كل ما يدخل منها في الوجود فهو متناه، ومتى كان الخارج منها إلى الوجود متناهيا كان لا محالة مختصا في الحدوث بوقت مقدر مع جواز حصوله قبل ذلك الوقت أو بعده بدلا عنه، وكان مختصا بحيز معين مع جواز حصوله في سائر الأحياز بدلا عن ذلك الحيز، وكان مختصا بصفات معينة، مع أنه كان يجوز في العقل حصول سائر الصفات بدلا عن تلك الصفات، وإذا كان كذلك كان اختصاص تلك الأشياء المتناهية بذلك الوقت المعين والحيز المعين، والصفات المعينة بدلا عن أضدادها لا بد وأن يكون بتخصيص مخصص وتقدير مقدر، وهذا هو المراد من قوله: * (وما ننزله إلا بقدر معلوم) * والمعنى: أنه لولا القادر المختار الذي خصص تلك الأشياء بتلك الأحوال الجائزة لامتنع اختصاصها بتلك الصفات الجائزة، والمراد من الإنزال الإحداث والإنشاء والإبداع كقوله تعالى: * (وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج) * (الزمر: 6) وقوله: * (وأنزلنا الحديد) * (الحديد: 25) والله أعلم.